في مكان ما قال نيتشة «لا يمكن أن تظهر قوة جديدة، ولا يمكن أن تمتلك موضوعا إلا إذا وضعت في البداية قناع القوى التي سبقتها، وقناع الموضوعات التي كانت تحتلها القوى التي تصارعها»، وذلك ما فعلته الصحوة في بدايات عهدها، حيث تقنعت بقناع السلفية بالمعنى العام والواسع، التي تدعو إلى فهم القرآن والسنة بفهم السلف، والسير على نهج النبي وسلف الأمة، وأخذ الأحكام من القرآن، ومما صح من أحاديث الرسول. وبهذا القناع السلفي، وبالتدريج، استولت على المؤسسات الدينية والتربوية والتعليمية، وسيطرت على الفضاء العام، وبدأ الخطاب الصحوي يتبلور فيما سماه سلمان العودة في سيرته «إصابة الحسنيين»، ويعني بهما صفاء العقيدة ونقاءها كما في السلفية، والتنظيم من حركات الإسلام السياسي.

من أجل أن يكون كلامي ملموسا سأستعين بأربعة مفاهيم مستقاة من «هونسرل»، لتتبع خيط منفرد أوصل في النهاية إلى الصحوة، وسيكون لي تعليقات بعد ذلك.

1 - مرحلة «التدشين»، وهي التي دشنها محمد بن عبدالوهاب. فمع هذا التدشين، اكتسب المجتمع، الذي سيدعى فيما بعد بـ«المجتمع السعودي»، إمكانية الرجوع من جديد إلى مرحلة التدشين هذه.

2 - مرحلة التأسيس البعدي، وتمثلها جماعة «إخوان من أطاع الله»، التي استعادت التدشين، وهي مرحلة تدشين، وفي الوقت نفسه تأسيس بعدي لمرحلة محمد بن عبدالوهاب المدشنة.

3 - المرحلة الثالثة هي «الترسّب»، وتمتد بين 1929م، عام هزيمة «إخوان من أطاع الله» في معركة السبلة، و1979م، عام احتلال جماعة جهيمان الحرم المكي. يعني هذا أن مكتسبات المرحلتين السابقتين اللتين طواهما النسيان لا تفقد تأثيرها.

4 – مرحلة التأسيس الأخيرة التي تمثلها الصحوة، حيث وصل فيها التدشين إلى امتلائه وتحققه.

يجب ألا يخدعنا ما يبدو دقيقا في هذه المراحل، وألا نفترض فيه من الصحة أكثر مما يحتمل، فهو ليس أكثر من طريقة في التنظيم لما هو غير معروف أو معروف بطريقة غير منظمة. ومع ذلك، يمكن أن نضع مداميك مفيدة تساعدنا على أن نستمر في تحليل خلفية الصحوة الاجتماعية والتاريخية.

1 - هناك إصلاح اجتماعي في المرحلة الأولى، ويرتبط هذا الإصلاح بالجانب الاجتماعي كنقد الخرافات التي تسير حياتهم، والمزارات والاعتقاد في بعض الأشخاص، وبودي أن أقول إنه تنوير وإصلاح عقلاني، لكنني لا أستطيع أن أؤكده، لذلك أبقيته في البُعد الاجتماعي للمجتمع.

2 – تعطينا الصحوة، بوصفها الشكل الأعلى لمراحل هذا التطور، مفتاحا لتحليل دعوة محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية، فنحن نعرف اليوم من تحليلات ماركس أن معرفة ملامح الشكل الأعلى التي وصل إليها الشكل الأدنى هي المفتاح، لمعرفة الشكل الأدنى، وأن التطور التاريخي يستند إلى أن الشكل الأخير هو خلاصة المراحل التي أدت إليه، وهو شكل يدرك جانبا واحدا من جوانب المراحل التي سبقته.

3 – يعطينا إدراك الصحوة، بوصفها الشكل الأخير، جانبا واحدا من جوانب الأشكال التي سبقته، ومفتاحا لدراسة تلقي المرحلة التالية للمرحلة التي سبقتها، فما يؤثر في كل مرحلة ليس ما قاله أو قصده رجال دين في المرحلة السابقة، بل ما فهمه رجال دين في المرحلة اللاحقة، وهذا الفهم يتأثر بمصالحهم وحاجاتهم. في هذا السياق، يمكن مثلا تحليل تلقي الدويش وابن بجاد بن حثيلين مضامين دعوة محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية، وعلى أي جانب ركزا لكي يجتمعا في 1962م بالأرطاوية، ليتعاهدا على الاستمرار في القتال، وتحليل تلقي جهيمان وجماعته مضامين جماعة «إخوان من أطاع الله»، وتحليل تلقي الصحويين مضامين جماعة «إخوان من أطاع الله»، على أن التحليل قد يكون لتلقي من زوايا مختلفة، وللمضمون بشكل عام، أو لمضمون معين مثل الجهاد أو الموقف من التحديث أو الموقف من الآخر.. إلخ.

4 - مفهوم الهيمنة من المفاهيم المؤسسة لكل مرحلة من هذه المراحل، ومعنى الهيمنة هو قدرة السلطة الدينية على أن تشكّل الناس، للسيطرة عليهم، حتى بعد فترة طويلة من زوال مصدر سلطتهم الخارجي، أي بعد أن يكونوا تخلوا عن التحكم المباشر، واستبدلوا به التحكم غير المباشر، أي السيطرة دون عنف. بعبارة أخرى، ألا تكتفي في سيطرتها بالقوة وحدها، بل لا بد من أجهزة أيديولوجية أخرى تساعدها في السيطرة.

5 – افترضت الجماعة السلفية المحتسبة (جماعة جهيمان) بُعدا لم يكن موجودا في المرحلتين اللتين سبقتهما بتركيزها على البُعد الانعتاقي. بدأ هذا البُعد في ما سمي «ملاحم آخر الزمان»، ومنها المهدي المنتظر، ثم تعاظمت الفكرة حتى أن جهيمان آمن فعلا بأنه موجود بينهم. وقد طعمت فكرة المهدي هذه الجماعة بفكرة مفادها أن هناك مرحلة من الكفاح والمعاناة تسبق ظهور المهدي. وقد كان لهذه الفكرة فتنتها، وكما يبدو، فإن هذه الفكرة هي التي حركت الجماعة، وتحكمت في تصرفاتها، بحيث تحققها.

6 – مفهوم «التهجين الصحوي» مفهوم مؤسس في المرحلة الرابعة فقط. أعني بذلك الالتقاء بين من يمكن أن أصفهم بالوهابيين الشباب والإخوانيين الذي حلوا في المملكة من مصر والشام والعراق. تبدأ نقاط الالتقاء بالدين والسياسة، حيث تبادلوا المنفعة، فالإخوان توهّبوا، والوهابيون الشباب تأخْونوا إذا كان من الممكن صياغة التهجين بلغة كهذه. وهناك نقطة التقاء مكانية، ألا وهي المؤسسات التعليمية، وهؤلاء هم السروريون. وقد اعترف سلمان العودة في سيرته بهذا المفهوم، وعبر عنه في «إصابة الحسنيين» (ص 187)، بقصد الصفاء العقدي من السلفية، واقتباس الأطر التربوية والإدارية من تجربة الحركات الإسلامية في مصر والشام والعراق.

7 – مثّل «التهجين الصحوي» علامة على انقطاع في التقليد الديني بمؤسسة الدين التي تبلورت عبر أكثر من قرنين، فالصحوة تختلف عن الصيغ القديمة كجماعة «إخوان من أطاع الله» مثلا سواء في التحريض أو في الفعل، وفي هذا الإطار نفهم تأثير كتب المودودي وسيد قطب. وقد وصف كيبل رؤية الطليعة الإسلامية بأنها تتبنى النموذج اللينيني للثورة.