«التكية المصرية في الحجاز» من أكثر الموضوعات المتداولة بشكل سلبي بهدف التاثير في العلاقات السعودية المصرية، ليس على المستوى الشعبي فحسب، بل على مستوى النخب والمثقفين كذلك، والمفاجئ هو الكم الهائل من المعلومات المغلوطة التي تفبرك لإثبات أن مصر كانت ظلا وارفًا على السعوديين قبل عصر النفط!

في هذا المقال أقدم مراجعة تاريخية حول هذا الموضوع، وأحاول طرح الأسئلة الجوهرية التي يجب أن تكون نصب عين الباحث المنصف، من المهم أولا أن نفهم لمن كان النفوذ السياسي في الحجاز عند إنشاء التكية، فهل كان الحجازيون «سعوديون» فقراء يتلقون الإحسان من خيرات مصر أم كانوا مواطنين «مصريين» مهمشين درجة عاشرة؟، ثم ما هي التكية المصرية؟ هل كانت وكالة غوث إنسانية، أم مؤسسة مصرية ذات طابع سياسي دبلوماسي تعمل على تسويق صورة مصر بين الحجاج كدولة راعية للحرمين؟.

وأخيرًا.. كيف يمكننا فهم سياق فخر المصريين المعاصرين بأعمال الحاكم الذي اعتبروه هم أنفسهم محتلا لمصر وثاروا على سلالته؟ فهل يعتبر المصريون حكومة «محمد علي باشا» التي أنشأت التكية وخاضت حروبًا بالوكالة في نجد و الحجاز ممثلا تاريخيا شرعيا لهم ؟ أم يعتبرونها حكومة احتلال استولت على قرارهم و سيادتهم فيصبحون بهذا أبرياء من أعمالها ؟

حتى نجيب عن هذه الأسئلة دعونا نستعرض بعض الأحداث التاريخية.

(الحجاز عام 1806) تحت حكم الدولة السعودية الأولى وحاكمها آنذاك الإمام سعود «الكبير» بن عبدالعزيز -رحمه الله-، كان الحجاز جزءًا طبيعيًا من أراضي الدولة السعودية، فحرص الإمام سعود على تقديم كل ما في وسعه لرعاية مواطنيه، بدأ بعقد المصالحات بين القبائل واتفق مع الأعيان وأخذ منهم العهود على حماية قوافل الحجاج، وإسقاط ضريبة المرور عنهم تقربًا لله في ضيوفه، وكان يحج كل عام،ويكسو الكعبة بأجود انواع الحرير ، وانتشرت الحاميات السعودية في كل مدن الحجاز، كما جمع المذاهب على محراب واحد وصلاة واحدة، وأزال مظاهر الدجل والخرافات التي تمثلت في تقديم القرابين والنذور للقبور وإقامة الموالد في المزارات، وأدت هذه الاستنارة المجتمعية في الحجاز لإشاعة حالة من الأمن والسلم الأهلي والاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي، فانخفضت الأسعار وتوافرت السلع، وانصرف الناس للتجارة، وعم الرخاء حتى بلغت زكاة مال الحجاز في ذلك الوقت 200 ألف ريال.

(مصر عام 1806) وصول محمد علي باشا إلى حكم مصر بعد إسقاط سلفه خورشيد باشا، لم يكن الحجاز على قائمة أولوياته فهو ألباني من مواليد اليونان، لم يكن قادرًا حتى على التحدث بالعربية، لكنه أراد أن يتقرب للسلطنة العثمانية بغية تثبيته على حكم مصر فقرر أن يحارب السعوديين، ويستعيد الحجاز للعثمانيين إثباتًا لولائه المطلق وتبعيته الكاملة.

(الدرعية 1818) الحملات المصرية الغاشمة تغزو العاصمة السعودية نيابة عن العثمانيين، ويرتكب جيش محمد علي أبشع جرائم الحرب وأكثرها توحشًا ودموية وغدرًا.

تسقط الدولة السعودية الأولى وتتفكك أقاليمها فتستأثر مصر بالحجاز وتسميه رسميا «الحجاز المصري» جزء من المملكة المصرية العثمانية، فتنصب الأمراء الموالين، وترفع العلم العثماني، وتستفتح منابر الصلاة باسم السلطان.

استشهد الإمام عبدالله بن سعود -رحمه الله، فشحت عند رحيله السماء وأجدبت الأرض واكفهر وجه الحياة، واستيقظ أهل الحجاز على حقيقتين، الأولى أنهم أصبحوا مصريين ولم يعودوا سعوديين، والثانية أنهم أصبحوا فقراء منبوذين وولى عنهم زمن الكرامة والرخاء!.

(الحجاز 1822) إنشاء التكية المصرية في مكة والمدينة، وفي الحقيقة كانت متواضعة سواء من حيث عمارتها أو مردودها على أهل الحجاز، إذا ما قورنت بالتكايا العثمانية التي كانت منتشرة في دمشق وطرابلس وحلب والقدس، والتي كتب عنها المستشرقون والرحالة كثيرًا.

كانت تكية الحجاز عبارة عن مخزن للغلال وطاحونة تحركها البغال، أما عملها الأبرز فهو أشبه بعمل قنصلية مصرية، إذ كانت تحتوي على غرف ضيافة خاصة بحجاج مصر لم تكن تتاح لغيرهم، وأجنحة ملكية لحجاج الأسرة العلوية، إضافة لنزل خاص بنظار التكية وعمال المحمل والعسكر العثمانيين.

في ضوء هذه الحقائق التاريخية، دعونا نعيد قراءة الصورة الكاملة، لقد أسقطت الحملات المصرية دولتنا، وقتلت حاكمنا الشرعي، ومزقت وحدتنا، وأعدمت أجدادنا في مجازر جماعية، ونهبت أموالنا، وحولت بيوتنا إلى سرادقات عزاء، وبعد ذلك.. أنشأت لنا التكية!.

ثم إن الأمر استتب لحكومة مصر في الحجاز بعد ذلك زمنًا طويلا فماذا تتوقعون؟ لابد أنكم تتوقعون أنها حولت مدن الحجاز إلى حواضر، كما كانت القاهرة وأسطنبول مثلا، ولابد أنكم تظنون أنها أولت عنايتها لإدارة أموال الإقليم وإنفاقها بنزاهة، وربما تتصورون أنها اهتمت بأمن الحجازيين وتعليمهم ورفاهيتهم كرعايا لمصر، أليس هذا ما تفعله الدول المحترمة ؟ حسنا.. هذا لم يحدث، فكل ما حصل عليه أهل الحجاز عندما تمصروا كان طاحونة قمح وموتًا بالمجان!.

بالنسبة لنا في الحجاز تمثل التكية المصرية ذكرى مؤلمة وجرحًا غائرًا، أما بالنسبة لأشقائنا في مصر فهي الصدقة التي حطمت كل الأرقام القياسية في المن والأذى بواقع يتجاوز 200 سنة أرضية!.

رأيي الشخصي أن مصر المعاصرة لا تستحق أن تلقى عليها حمول التاريخ الثقيلة، وببحث سريع وجدت أن سيناريو التكية بأكمله صنعته الأحزاب الإسلامية كجزء من سرديتهم التقليدية التي تمجد العثماني، لكن هذا لا يعفي المثقف المصري من تقديم قراءة تاريخية واعية لإظهار الحقائق خارج إطار المناكفات العاطفية.