تعد فلسفة الفيلسوف الألماني المثير للجدل فريدريك نيتشه (1844 - 1900) من أكثر الفلسفات تأثيرا في الفكر الأوروبي، ولاقت رواجا كبيرا في الأوساط الثقافية والأدبية على المستوى العالمي. فلسفة نيتشه بطبيعتها غامضة وغير محددة المعالم، فلا أحد يستطيع تحديد موقفه الحقيقي من الدين والعلم والأخلاق، ففي كتابه الأكثر أهمية (هكذا تكلم زرادشت) يكتب بلغة غير مفهومة، أقرب للهذيان. ولكن يمكن تبين شيء من تأثير التراث اليوناني فيه، وسط ما تخفيه كتابته المشتتة والغامضة وكلماته غير المترابطة. فهو يحمل عقلية مشبعة بالأساطير اليونانية. يبدو ذلك جليا في مجمل أفكاره عن فلسفتي القوة والعود الأبدي.

يعتقد كثيرون أن نيتشه يحمل فلسفة إلحادية لا تؤمن بالإله، وهي فكرة شائعة بين القراء والباحثين المهتمين بفكره، نظرا لموقفه السلبي والمعادي للأخلاق المسيحية ولتعاليم المسيح التي يعتقد أنها ضد إرادة الحياة. وهذه الفكرة الشائعة غير دقيقة في الواقع، نيتشه في الحقيقة يحمل عقيدة دينية راسخة، ويكتب ويفكر بأسلوب يطغى عليه التعصب الديني أو لنقل التطرف الديني. خلافه مع تعاليم المسيح والأخلاق المسيحية هو في أساسه خلاف عقدي، وتباين في العقيدة الدينية بين ما يقدمه النموذج المسيحي عن صفات الخالق، وما يترتب عليها من أخلاق، وبين ما يتبناه في فلسفته الشهيرة «فلسفة القوة» التي تتعارض جملة وتفصيلا مع الأخلاق المسيحية وتعاليم المسيح.

موقفه الذي يتصف بالحدة والشراسة تجاه المسيح والأخلاق المسيحية، أوهم كثيرا من المهتمين بأطروحاته أنه يميل للإلحاد ومعاداة الأديان، بينما هو يعبر عن إيمانه بعقيدة مغايرة، تعود بأصولها للتراث اليوناني. نيتشه كما أسلفنا يحمل عقلية مشبعة بالأساطير اليونانية، وتأثير الثقافة اليونانية طاغ في عقليته وتفكيره بشكل لا يوصف، جعلته يكفر بالمسيحية وتعاليمها التي تمثل دين الأغلبية الساحقة في القارة الأوروبية. وتنكره للأخلاق المسيحية يمكن إجماله في صفات إنسانية يعتقد أنها ضد إرادة الحياة، وهو يقصد هنا صفات الشفقة والرأفة والرحمة، وإنكار الذات والتضحية بالنفس واحترام الجار التي تمثل جوهر الأخلاق المسيحية. والحديث عن صفات كالرحمة والرأفة وعلاقتها بالعقيدة الدينية كانت مثار جدل في تراث الحضارة الإسلامية فيما يعرف بتوحيد الأسماء والصفات. يقول السعدي في تفسير قوله تعالى (بالمؤمنين رءوف رحيم): «أي شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم، ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق». وهنا نجد بعض القواسم المشتركة بين الإسلام والمسيحية المتعلقة بصفات الرحمة والرأفة.

الرأفة والرحمة عند نيتشه صفات محتقرة، ليس لها قيمة بالنسبة للروح القوية التي يجب أن يتحلى بها البطل أو السيد القوي صاحب الروح القوية المثيرة للرعب. وموقفه هذا قديم، ومن العلامات الأصيلة التي تميز تفكيره. فكيف يمكن ربط موقفه الشرس تجاه المسيح وتعاليمه بعقيدته الدينية؟

في كتاب (فلسفة الأخلاق) يقول يسري إبراهيم الباحث المختص في فلسفة نيتشه: «ويمكننا أن نصف ميتافيزيقيا نيتشه بأنها تتعلق بهذا العالم فقط دون أن تتعلق بأي عالم آخر سواه. فهو لا يعتقد في وجود حقيقة متعالية، ويريد أن يتخلص من التمييز القديم بين الحقيقة الأساسية ومظاهرها الخارجية، بين العالم الحقيقي والعالم الظاهر، إذ لا يوجد في رأيه سوى العالم ذاته، ولا يوجد شيء إضافة إلى إرادة القوة التي تشكل عالمنا بأشكالها المختلفة. فالعالم من وجهة نظر ميتافيزيقيا نيتشه يوجد فقط بوصفه حلولا خالصا». نستطيع أن نلمح هنا تأثر نيتشه بعقيدة «الاتحاد والحلول» وأن الإله يتحد في أفراد من البشر، وتتجلى قوته وجبروته من خلالهم. فالرجال الأقوياء أو الأبطال العظماء هم في واقع الأمر أنصاف آلهة، وهذا يؤكد تأثر نيتشه بالأساطير اليونانية وتشبع تفكيره بها. ففي الأساطير اليونانية هناك شخصية يمكن أن تكون أقرب نموذج لبطل نيتشه وهي شخصية كراتوس، ويعد في الميثولوجيا الإغريقية إله القوة والحرب، شخصية تتصف بالعنف الشديد والقوة الخارقة. وظفت شخصية كراتوس أو كريتوس في بعض ألعاب الفيديو والقصص المصورة باعتباره محاربا لا يشق له غبار أو بمعنى أصح «نصف إله». وحسب نيتشه فإن إرادة الإله المتحد بالبشر لا يمكن أن تعكسها شخصية عرفت بمواقفها النبيلة وشخصية تفيض حبا وعطاء مثل شخصية المسيح عليه السلام. ولا يعكسها غير الأبطال أصحاب القوة والجبروت كشخصية كراتوس المحارب العنيف والمرعب.

فلسفة نيتشه الأخلاقية المرتكزة على مبدأ القوة، فلسفة مخيفة في حال انتشارها والإيمان بها من قبل شريحة كبيرة من الناس، فهي تمثل دعوة صريحة للعنف والإيذاء، وهذه الفلسفة (فلسفة القوة) تمثل أساس عقيدته الدينية التي من أجلها هاجم المسيحية هجوما لاذعا وشرسا يميل للتطرف والتعصب الديني. عقيدة تأثرت بعقائد الشعوب اليونانية وما يشوبها من إيمان بالاتحاد والحلول باعتبارهما مظهران من مظاهر الإيمان بعقيدة وحدة الوجود، ذات التأثير البالغ في الفلسفتين اليونانية القديمة والأوروبية الحديثة.