قواعد الدين ثابتة وظروف الحياة متغيرة وفي المقابلة بين الثابت والمتغير لا بد أن يحدث جزء من المخالفة، ونقصد بالمخالفة أن يتغير الثابت أو يثبت المتغير، ولأن تثبيت واقع الحياة المتغير مستحيل، فقد كان الأمر ينتهي دائمًا بتغيير الثوابت الدينية، وقد حدث هذا دائمًا ومنذ بدء الخلافة الراشدة وحتى انتهت وتغيير الثوابت هو ما نسميه بالاجتهاد، وقد اتفقنا على أنه ليس مطلقًا، لكنه قائم ومتاح، وما أوردناه من أمثلة لاجتهادات عمر بن الخطاب يصلح دليلًا على ما نقول، غير أنه في بعض الأحيان تفرض تعقيدات الحياة نوعًا من المخالفات الحادة ليس فيه شيء من تناغم الاجتهاد في ربطه بين الأسباب والنتائج، فتصبح المخالفة صريحة وواضحة لا يمكن تبريرها بالاجتهاد لافتقاد أسبابه، وإنما تبرر فقط بأن عدم المخالفة مستحيل أو في أحسن الأحوال غير ممكن، وقد حدث ذلك في عهد الراشدين كما يحدث في كل عهد، ومثاله ما حدث عقب مقتل عمر ابن الخطاب، حين انطلق ابنه عبيد الله ابن عمر وقتل ثلاثة ظن فيهم التآمر على مقتل والده، ولم يثبت ذلك في حق أحد منهم، وكان أحدهم الهرمزان الذي أسلم وصح إسلامه، وقد واجه عثمان هذا الموقف في بدء ولايته وكان رأي الدين فيه، واضحًا أعلنه وأصر عليه وهو أن يقتل عبيد الله بدم من قتل، لكن عثمان لم يملك إلا المخالفة لأسباب (إنسانية)، فقد تساءل الناس في شفقة، أيقتل عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم؟ ألا يكفي آل عمر قتل عمر؟، أيفجعون فيه ثم في ولده قبل أن تجف دموعهم عليه؟.. منطق.. وإنسانية.. وظروف متغيرة.. لكن حكم الدين ثابت وواضح ولا لبس فيه.. حكم الدين هو القصاص، ولا بد من قتل عبيد الله..

ويقال إن عمرو بن العاص أفتى بفتوى بالغة الذكاء والمهارة عندما تولى عثمان، وسأل عمرو أن يخرجه من المأزق الصعب فسأله عمرو: هل قتل الهرمزان في ولاية عمر؟ فأجابه عثمان، لا كان عمر قد قتل فسأله ثانية: وهل قتل في ولايتك؟ فأجابه عثمان لا، لم أكن قد توليت بعد، فقال عمرو: إذن يتولاه الله.

والشاهد هنا أن عثمان حاول التخلص من المأزق بدفع دية الهرمزان من ماله ولم يتحمل عبيد الله وزر القتل أو حتى دية القتلى، وهو ما رفضه على الذي ظل يتوعد عبيد الله كلما لقيه بأنه إذا تولى فسوف يقتله بدم الهرمزان، وما أن تولى على حتى هرب عبيد الله إلى جيش معاوية وحارب عليا إلى أن قتل في معركة صفين.

ويشاء القدر أن يقع على في نفس المأزق، بل ربما بصورة أعقد، فقد ولى ولم يقدر على قتلة عثمان لأنهم كانوا مسيطرين على المدينة، ثم انتقل من حرب إلى حرب وهم على رأس جيشه فلم يتمكن منهم، وعندما أعلن معاوية أن مطلبه الوحيد أن يدفع على إليه قتلة عثمان، فوجئ على بجيشه يهتف في صوت واحد، كلنا قتلة عثمان، فزاد الموقف تعقيدًا، وأصبح مستحيلًا على الإمام على أن يثأر من القتلة أو حتى يحاسبهم.

هي الحياة وليست الجنة، والبشر وليس الملائكة، وخلا عصر النبوة لا يوجد عصر للنقاء المطلق أو انعدام المخالفة المطلق وكلما تغير العصر أو تقدم تعددت المتغيرات وزادت المخالفات، وإذا كانت الاجتهادات واسعة، والمخالفات واردة، قبل أن يمر ربع قرن على وفاة الرسول وفي عهد معاصريه، فكيف بنا بعد أربعة عشر قرنًا من وفاة الرسول، ألا نتوقع أن یزداد حجم المخالفات الاضطرارية، وأن نتوسع في (الاجتهادات الضرورية) وأن نقبل بحد أدنى من تطبيقات الدين، أقل بكثير مما قبله سلف أصلح، في عصر أكثر تخلفًا، وأقل تعقيدًا وأحكم انغلاقًا، وأكثر اتفاقًا.

1991*

* كاتب وباحث مصري «1945 - 1992».