عرف علماء الأثنولوجيا الثقافة أنها جملة القيم والرؤى والمفاهيم والمبادئ والاختيارات التي يستند إليها أي فرد أو مجتمع بشري في سعيه الصانع الخلاق المبدع. وعرفها أصحاب النزعة التطورية الحديثة من العلماء المعاصرين بأنها ديناميكية لها القدرة على الامتداد والتشعب والانتشار والنمو كما وكيفا شأنها في ذلك شأن الكائنات العضوية البيولوجية، وعلى حد رأي الأستاذ ليزي وايت في كتابه (تطور الثقافة) فإن الثقافة والحضارة نسق حراري ديناميكي يمكن تحليله إلى ثلاثة عناصر رئيسية هي (الطاقة والآلات والإنتاج. فالحضارة والثقافة هي عمل آلي لإشباع حاجات الإنسان.

ولكي يتحقق ذلك فلا بد من التحكم في الطاقة وتشغيلها، بيد أن استخدام الطاقة يتطلب توافر أجهزة وأساليب ووسائل تكنولوجية هي التي تطلق عليها، أدوات أو آلات وتستخدمها في التحكم في الطاقة وتحويلها وبذلها إلى إنتاج السلع والخدمات التي تسد حاجات الإنسان المختلفة.

ويضرب ليزي وايت مثلا لذلك في قوله إن صيد السمك وصنع الفخار، وقص الشعر وثقب الأذنين لتعليق الأقراط، وبرد الأسنان من أجل التجميل، ونسج الملابس، وما إلى ذلك من العمليات الثقافية الكثيرة هي أمثلة للتحكم في الطاقة. وبذلها عن طريق الوسائل والأساليب الآلية من أجل حاجات ومتطلبات بشرية معينة.

ولعل أهم تأكيد لغاية الثقافة وأروع صورة لوحدتها، ووجهتها الحضارية ونسقها الاجتماعي هو هذا الموضوع، أو القضية الكبرى التي تشغل بال العالم المعاصر (قضية العلوم الصحيحة ودورها في تطوير البلاد النامية).

إن الظاهرة التكنولوجية التي توشك أن تصبح نظاما عاما يحكم الاقتصاد المعاصر. ومشكلة التفاوت بين العالم الثالث المتحفز للإقلاع والنمو، وبين العالم المتطور ومسألة الفقر والغنى، وتباعد الشقة كل يوم بين دول فاقت منجزاتها العلمية حد الخيال، وبين دول أخرى عجزت عن مجرد التصديق لما وصلت إليه هذه الدول.

كل هذا وغيره يتحدانا اليوم، ويتحدى جميع المجتمعات السائرة في طريق النمو ويصمها بالعجز ومركبات القصور.

وإزاء ذلك فنحن لا نكاد نملك غير خيار واحد هو أن نجابه هذا التحدي ونواجهه بالعلم والبحث والتطلع، وتكريس جميع مواهبنا العالية لاكتشاف المعارف التكنولوجية بأنماطها المختلفة.

هذه هي ماهية الثقافة الحديثة وربطها بالظاهرة التكنولوجية التي توشك أن تصبح نظاما اقتصاديا عاما والفجوة السحيقة بين الدول المتقدمة وبلدان العالم الثالث في ميدان المنجزات العلمية التي أصبحت تمثل نوعا من التحدي للمجتمعات السائرة في طريق النمو. وختم الأستاذ محمود المسعدي خطابه بتحديد

البحث في موضوع العلوم الصحيحة ودورها في تطوير البلاد النامية، له أهمية تتصل بالتطبيقات العلمية في مجتمعنا المعاصر، ومدى استجابتها لمطامحنا المشروعة في التطور والنمو، وتناولنا لمسائل أساسية مهمة من قبيل انتقال التكنولوجيا من بلد إلى آخر، ومن البلاد المتطورة إلى البلاد النامية والعلاقة بين الابتكار والاستيراد للخبرات التكنولوجية، وهل استطاعت البلاد النامية أن تلائم بين ما تستورده من ابتكارات وبين أوضاعها القومية المتميزة؟ وهل أن البحث العلمي في مؤسساتنا يعتمد العلم مصدرا للثروة القومية، ويكيف طرقه واهتماماته بما يتلاءم مع أوضاعنا الخاصة أم أن مؤسسات البحث بالبلاد النامية تابعة في منهاجها واهتماماتها للجامعات العلمية بالعالم المتطور؟ وهل ينبغي أن تركز الجهود على البحث العلمي الأساسي أم نوجهها إلى القضايا العلمية المتصلة بالتنمية على المستوى القومي؟

إن هذه الأسئلة وغيرها جديرة بأن تطرح وتعالج وأن تساهم في توضيح الرؤية وإثارة السبيل، لتقصي جهود أسلافنا، مثل عالم الجبر أبو الحسن علي بن محمد بن علي القرشي البسطي الشهير بالقلصادي، الذي ولد سنة 113 هجرية الموافقة لسنة 1412م وهو عالم الرياضيات والمؤلف الفرضي والرحالة، ويعرف بانه آخر من له التآليف الكثيرة من الأندلسيين. وأكثر تصانيفه في الحساب والفرائض. أصله من بسطة بالأندلس ثم انتقل إلى غرناطة فاستوطنها، وأخذ بها عن جملة من العلماء.. كابن فتوح، والسرقسطي وغيرهما، ثم مرزوق والقاضي قاسم العقباني، وأبي العباس بن زاغ. ثم ارتحل فلقي بتونس تلامذة ابن عرفة، كابن عقاب. والقلشاني، وحلولو. ثم حج، ولقي إعلاما، وسمع بمصر من الحافظ ابن حجر، وظاهر النويري والجلال المحلي، والتقى الشمني، وأبي الفتح المراغي - حسبما ذكر ذلك في رحلته وهي جامعة لشيوخه بالمغرب والمشرق، وجملة من أحواله. وعاد فاستوطن غرناطة إلى أن حل بوطنه ما حل من الإسبان فتحيل في خلاصه فارحمل، ومر بتلمسان، ونزل بها علی ابن مرزوق ابن شيخه. ثم جرت به الرحلة إلى أن توفي بباجة إفريقية (الشمال التونسي) في منتصف ذي الحجة سنة 891 هـ 1486م.

وقد اشتهر القلصادي بعلم الرياضيات وهو أهم میدان برز فيه ونبغ. ومما يؤثر عنه ميله إلى تبسيط المسائل الحسابية، وهو أول من استعمل الرموز والعلامات الدالة على العلاقات والمجاهيل. وهو أول من اختصر العمليات والمعادلات أيضا.

1976*

‏* كاتب وأديب وسياسي تونسي «1911 - 2004»‏