أما تاريخ هذه الصناعة العامية فمسألة لم تحرر بعد، أهمل فيه التأليف مؤرخو الآداب ومؤرخو العمران في آن معًا، فمظانه غامضة، والمعلومات فيه متوارية.. اللهم إلا ما لا يكون في بعض الموضوعات من إشارة، أو نظرة بالعجلة ما لا يشفي صبابة، ولعل إهمال التأليف فيه من كونه أحد فنون العامة، التي لا ترتفع إلى مرتبة الفصاحة، وكونه من اللهجات التي يختص بعضها بقطر أو جيل، أو يختص بعضها الآخر بقطر آخر أو بجيل آخرين، فأعرض مدونو علوم اللسان عن تدوينه استخفافًا لشأنه، وترك مؤرخو المدنية والعمران، وهم الذين لا يستوعبون إلا العام من أحوال الجماعات ومصاير أيامها، مشقة الكتابة فيه، حتى لقد أصبح القول في تاريخه ظنونًا وأحاديث مرسلة لم ترزق حظها من التثبت.

ولقد قيل في هذا الباب شيء كثير، قيل إن الشعر العامي نشأ مع اللغة، وإنه في مختلف أجيال الناس كان خواص، وكان عوام، فكان ما يطاوع العوام في أداء مادة الشعر هو أول الغيث في هذه الطرائق، التي تتعاطاها عامة الأقطار لعهدنا.

وقيل إنه في أوائل العهد باللغة كان الابتداء بالعامي من الشعر، فهو الذي يقع يسيرًا صافيًا، لا بالحامي الذي ينبغي فيه قيام إعراب وبلاغات شتى، وأن التقدم إلى الخاصي كان شيئًا فشيئًا، وهكذا أهل هذه المقالة ينكرون قضية التوقيف في اللغة، ويقولون إن الاصطلاح قد وقع في لغة الخاصة، وفي لغة الكافة، وإن ذلك قد أعقب التدرج في منحى اللغة، وفي منحى العامية، وإن ما كان من العامية يومئذ قد ذهب بذهاب أهله لعدم تدوينه، بخلاف ما جرى في اللغة، وإن ما جاء من أهل الأزمنة المتطاولة من شعر وكتابة ومخاطبات فيه نسم من ذلك.

ويستشهد هؤلاء لرأيهم بورود ألفاظ قد نص على صحتها، ولكن اشتقاقها لم يعرفه أحد، وبورود ألفاظ أخرى لم تفسر، قالوا: وإن هذا قد وقع في اللغة قبل أن تتخلص من العامية، لا أنه علق بها بعد الاحتكاك بالشعوب وفساد السلائق، وأنه كما يجوز أن يقال إن هذه الحروف قد جاءت اللغة يوم تخلف العرب من محمود فصاحتهم.

يجوز أيضًا أن يقال إنها جاءتها يوم توافدوا قبل ذلك على الفصاحة، ويقولون فوق هذا إن مسائل الغريب والوحشي ولغات الأضداد والمؤنث السباعي واللغات المدعومة، واختلاف اللغات، ووقوعها في الكلمة الواحدة، وتسمية الشيء بأسماء كثيرة، وفضل بعض الكلام على بعض، وعدم معرفة الوجه في تصريف بعض الأفعال، واشتقاق بعض الحروف، ومجيء أفعل في الأوصاف لا يراد به التفضيل، ومسألة الواحد الذي لا جمع له من لفظه، والجمع الذي لا واحد له من لفظه، ومسألة الألفاظ التي جاءت بلفظ المفرد وبلفظ المثنى، ومسائل الإحالة والتغيير والرخص في الشعر، إلى آخر ما هناك من مشكلات العربية يصح أن ترجع إلى هذه الشعبة، كما يصح أن ترجع إلى غيرها، وهذا باب لهم يفيضون فيه كثيرًا، وأنا لم أذكره هنا بطوله، بل ذكرت منه أشياء.

وقيل إنه بعد أن خالط العرب الأعاجم وفسدت لغتهم نشأت فيهم لغات خالفت لغة سلفهم، وغدوا على التخاطب بها، وإنه كان من ذلك أن صار في كل مصر لغة، وأن الشعر ملازم للطبع موضوع في صدور الناس، لا بد من ظهوره في أجيالهم، كيف كانت لغتهم، فاستحدث أهل الأمصار شعرًا من سليل لغاتهم، وكان لكل مصر شعر، كما كان لكل مصر لغة، وهذا الرأي هو الذي عليه ابن خلدون في «المقدمة»، وهو الرأي الراجح الأكثري، الذي يشرح الصدر.

ولقد تفرد ابن خلدون بالكلام على نشأة الشعر العامي، وتدرجه إلى الآفاق، وبإيراد أشياء منه، وأشياء عن أساليبه وفنونه، إلا أن قوله في أولية الشعر العامي، على جودته واستشفاء زماننا به لا يخرج من قبيل التقدير والتعرف بالدلالة، لا بالإسناد والرواية، وليس فيه أسماء، وذکر أفعالا وأدوارًا بعينها -اللهم إلا حيث ينتهي إلى الكلام على شعر الجيل من العرب، وأهل الأمصار، لعهد صاحبه، فيذكر ابن خلدون هناك صناعة العرب المستعجمين، وتسمية قصائدهم، عند عرب المغرب بـ«الأصمعيات»، نسبة إلى الأصمعي وتسمية هذا النوع عند عرب المشرق، بـ«البدوي»، وما صنع فيه هؤلاء من الألحان وغنوا به مما سموه بـ«الحوراني» نسبة إلى حوران، وما كان لهم في ذلك القصيد البدوي من فنون وطرائق إلى آخر ما جاء به، ثم ذكر في موضع آخر من كلامه ابتداع أهل الأمصار الزجل، بعد شيوع التوشيح في الأندلس.

1945*

* أديب لبناني (1901-1976)