تمنح كثير من الجامعات حول العالم «طالب البحث» شهادة الدكتوراة كأعلى درجة علمية يحصلها عليها الباحث نتيجة تقديمه أطروحة في مجال تخصصه. وتحمل شهادة الدكتوراه في كثير من الجامعات مسمى «Doctor of Philosophy» واختصارها (PhD ). قد يتساءل أحدنا: ما علاقة الفلسفة بدرجات البحث العلمي الممنوحة في العصر الحديث، كالدكتوراة في الهندسة الكهربائية أو علوم الحاسوب على سبيل المثال؟ وهل هناك علاقة للفلسفة بخصائص المعرفة العلمية والمنهج العلمي الحديث؟ وهو سؤال مطروح حتى في الأوساط الأكاديمية الغربية.

في رواية (سبعة) يقول غازي القصيبي على لسان إحدى شخصيات روايته، متحدثًا عن صعوبة تعريف الفلسفة: «هذا صحيح! هذا صحيح! والسبب أن الفلسفة، عبر فترة طويلة من الزمن، كانت أم العلوم، كان كل علم تقريبًا جزءًا من الفلسفة، الرياضيات، والطبيعة، واللاهوت. هذا هو السبب في أن شهادة الدكتوراة في الغرب تسمى دكتوراة/الفلسفة. بقي الاسم القديم حتى بعد أن زالت مبرراته».

في هذا الجزء البسيط من المحادثة، ندرك أن الفلسفة تراث غربي أو أوروبي إذا أردنا تحري الدقة. هذا التراث زالت أي مبررات لوجوده في مناهج العلم الحديث. ولكن وجوده الرمزي ظل موجودًا في تخصصات علمية انفصلت انفصالا تامًا عن تراث الشعوب اليونانية. فالعلم الحديث يستبعد أي معارف خرافية أو غير علمية لا تتقيد بقواعد المنهج العلمي الصارم في التعرف على الأشياء والكشف عن الظواهر. ولا يقبل كذلك بعض أشكال التفكير مثل التأمل الذي يمثل أداة رئيسة في الفلسفة. ولا شك أن العلم يرفض أي نتائج مستقاة عن طريق التأمل وينظر لها باعتبارها خرافة أو ضربًا من ضروب السحر. فالعلم ينظر للتأملات الفلسفية بعين الشك وكل التأملات الفلسفية تبدو من منظور العلم مفتقرة إلى الصياغة الكمية الدقيقة، وأي معرفة تكتسب عن طريق الفلسفة لا يمكن إثباتها أو دحضها بطريقة تجريبية كما هو الحال في النظريات العلمية.

وإذا كانت الفلسفة تستند غالبا على الأساطير ويمكن أن تتبناها، فالأسطورة بالنسبة للفلسفة تمثل نظامًا كاملًا للنظر إلى العالم قد تؤثر في أي حقائق تتبناها. فضلا عن الفلسفة تناقش غالبًا بعض العقائد الدينية وتحاول تأويلها وإثباتها، بعكس العلم غير المعني بتأويل أي عقيدة دينية. فالفلسفة تختلف عن العلم موضوعًا ومنهجًا. فلماذا إذن تقحم الفلسفة في الدرجات العلمية الممنوحة للباحثين في العصر الحديث كدرجة الدكتوراة، خاصة أن الدراسة في مرحلة الدكتوراة يمكن اعتبارها مجرد تدريب متقدم أو عالي المستوى على مهارة البحث العلمي، وبالتالي المساهمة في تأسيس معرفية أصيلة أو اكتشاف معرفة جديدة. هذا التدريب المتقدم على مهارة البحث العلمي يتطلب استبعاد أي شكل من أشكال التفكير غير العلمي ومنها التأملات الفلسفية. فالعلم لا يعترف إطلاقًا بالتأمل كمنهج علمي ومعترف بنتائجه.

يمكن القول إن إقحام الفلسفة في الدرجات العلمية المعاصرة هو مجرد تقليد في الجامعات الأوروبية، أو موروث يرغبون في الحفاظ عليه، فهي أشبه ما تكون بالديكور أو الأيقونة الرمزية ذات الدلالة الثقافية، فالجامعات الأوروبية تميل لأن تكون تقليدية ومحافظة وتسعى للحفاظ على تراثها القديم. نلحظ ذلك في هندسة أبنية الجامعات وتصاميمها القديمة، وأزياء التخرج والملابس والقبعات ذات الطراز القديم المعتمدة في المناسبات الجامعية الرسمية كمناسبات التخرج. وكثير من التقاليد الأكاديمية في الجامعات الأوروبية ذات أصول يعود بعضها للعصر اليوناني القديم، ومنها الألقاب الأكاديمية والدرجات العلمية التي تضاف لها الفلسفة بدافع الحفاظ على التقاليد والتراث.

في تاريخ أوروبا القديم، لم يكن متاحا من الدرجات العلمية في الجامعات الأولى سوى درجة الدكتوراه في اللاهوت (معرفة الله) حسب المعتقدات الدينية اليونانية والمسيحية القديمة. وحتى الرياضيات كان ينظر لها من زاوية دينية، وتدريجيًا امتدت الألقاب الدينية كموروث ثقافي إلى بقية العلوم والتخصصات الجامعية حتى وصلت لعلوم الحاسوب والهندسة الكهربائية. ويحق للجامعات الأوروبية الحفاظ على موروثاتها الثقافية والدينية ولكن هل يحق لها ربط العلم بتراثها الديني وتقاليدها الثقافية، إذا قلنا بأن العلم مشترك إنساني ومحايد غير مرتبط بثقافة أو شعب بعينه؟ وهنا يأتي دور الجامعات العربية لوضع الخطوط الفاصلة بين ما هو علمي وما هو ثقافي في الأوساط الجامعية، وإعادة النظر في بروتوكولاتها وبرامجها الجامعية، وتحديدًا في مسألة إقحام الفلسفة الرمزي في الدرجات العلمية حتى تحقق الجامعة العربية استقلاليتها الثقافية والعلمية.