"الترف" كلمة موحية بدلالات التراخي والوفرة والاستهتار وقلة الإنتاجية وعدم الشعور بأهمية التخطيط للمستقبل. ويمكن تعريفه، ببساطة، بأنه: مجاوزة حد الاعتدال فيما يحتاجه الإنسان. ومن ملامحه تحول الكماليات إلى الضروريات عند أفراد المجتمع، وتنامي تطلعهم إلى الإكثار من الأسباب التي تدفعهم إلى الاستهلاك غير الضروري مع تراجع قيم الإنتاج. وعادة ما تصاحب الترف مظاهر البطر والتفاخر والتعالي والرغبة في بلوغ ما لم يبلغه الآخرون، والدخول في سباق مجنون لا نهاية له، تغيب فيه عن المترفين مقاصد ومنافع الثروة، التي من أهدافها سعادة الإنسان وإحساسه بالمشاركة في دائرة المنفعة الإنسانية. والترف واحد من المخاطر "الخفية" التي يخشى أن تهدد سلامة المجتمعات الخليجية بعد تدفق الثروة وعجز المؤسسات التربوية – الأسرة والمدرسة والإعلام والمسجد - عن بناء منظومة تربوية تعلي من شأن العمل والإنتاج وتضعهما في أولويات سلم القيم الحاكمة.

والصيف والإجازات "لوحات زمنية" ترسم عليها صور سفاهة بعض المترفين ووقوع قطاع كبير من المجتمع في "شباك" تقليدهم. ومن صور "سفاهة الصيف" ما يتجلى في النشاطات المدرسية التي اكتست مظاهرة شاذة تبدأ بتنظيم حفلات آخر العام الدراسي في فنادق النجوم الخمسة وقاعات الاحتفالات الكبرى والتعاقد مع المطربين و"الطقاقات" لإحياء "سهرات التخرج" بعد ذهاب "طالبات العلم" إلى صالونات التجميل و"بوتيكات" تجهيز العرائس، فيتحول الابتهاج بالإنجاز العلمي إلى مناسبة لاستعراض الموضة والتفاخر بالمجوهرات والسيارات التي تأتي بها "طالبة العلم" يوم تخرجها إلى مقر الاحتفال، مصحوبة بأفراد العائلة المحفوفة بالخدم والحشم. فأين "العلم" من هذا؟ وأين التربية التي تزرع في الإنسان أن قيمته تزداد بما يحسن ويعلم لا بما يبدو ويملك؟ وترى البعض ينفق آلاف الريالات بمناسبة إنهاء طفل، في السابعة، عامه الدراسي الأول فتقام الحفلات وتأتي الشركات المتخصصة لإقامة المنصات وتوريد أصناف الطعام وشاشات العرض وبرامج التسلية ويدعى أصدقاء الطفل ومن حولهم.. هذا الطفل الذي ينفق على انتهاء عامه الدراسي الأول عشرات الآلاف كيف يمكن أن يقدر العمل وقيمه؟ وكيف سينظر إلى المحتاج الذي لا يملك وسيلة توصله إلى مدرسته على بعد عشرات الكيلومترات من منزله الصغير؟ وتدخل العائلة، من الطبقة المتوسطة، إلى المطعم، فلا يكتفي أفرادها بطلب وجبة واحدة لكل منهم – مهما كان ثمنها – بل يتدافع الجميع لطلب عشرات الأصناف، لا للحاجة، ولكن حتى تمتلئ الطاولة بالأطباق ويظروا لمن حولهم أنهم "ما تهمهم الفلوس". وقد يتذوق بعضهم طبقاً معيناً فإذا لم يعجبه تركه وطلب غيره. هذه الصورة التي لا يرى فيها بعضنا إلا الخسارة المادية قد تترك آثاراً عميقة في ناشئة تلك الأسرة وترسخ لديهم مفاهيم وقناعات غير واقعية ولا تتفق مع سنن الحياة.

ومن صور "سفاهات الصيف" الخليجي في الخارج ما رصده، مرة، الدكتور علي محمد فخرو ـ مفكر، كاتب وسياسي من البحرين له آراؤه ومواقفه وتأملاته الرافضة للكثير من المواقف السياسية والمظاهر الاجتماعية في منطقة الخليج ـ: "ما يفعله أغنياء الدول بثروة البترول من بطر وتبذير وبذخ أسطوري مبتذل لم يعد مقبولاً، لا بمقاييس الأخلاق ولا الذوق الرفيع ولا أحكام الدين". وينقل من مشاهداته في شوارع العواصم الغربية صوراً قبيحة يتوارى من فعلها العقلاء ويرتجف منها من يخافون سخط الرب: "لا يحتاج المراقب لأكثر من التجوال في شوارع لندن التجارية ومناطق سكنها الفاحشة الأثمان ليرى العجب العجاب.. شباب خليجيون يسوقون سيارات فارهة مطلية بالذهب، تصل أسعار بعضها إلى أكثر من مليون جنيه إسترليني، ويفاخر أحدهم بأنه اشترى رقم لوحة سيارته في مزاد علني في بلاده بتسعة ملايين جنيه. ويتفاخر بأنه نقل سيارته الأعجوبة من بلاده إلى لندن بواسطة طيارته الخاصة.. وقد ترى أحدهم يزور متجراً للمجوهرات فلا يخرج إلا ومعه فاتورة بأكثر من عشرين مليون جنيه". ويعلق بأن ذلك "يحدث من أناس لم يمارسوا الإنتاج أو الإبداع أو العمل المضني، ولا بد من مساءلة المجتمعات والأنظمة السياسية التي فرخت تلك الظاهرة العبثية".

آمل ألا يفهم من نقد مظاهر "سفاهة الترف" أنه دعوة إلى التقشف أو كراهة الحياة أو الزهد في متعها المباحة أو الضيق من توسع أهل المال في الاستمتاع بأموالهم، لا، ليس هذا هو القصد ولا هو الباعث على الإشارة إلى هذه المظاهر، بل الدافع هو الخشية من نشوء جيل من المترفين الذين لا هم لهم إلا التفاخر بما لديهم، وما يميزهم في مطعمهم ومشربهم ومركبهم، فيورث ذلك خمولا وترهلا في المجتمع يضعف مناعته وقدرته على التجدد والحيوية.

أعلم أن الإشارة إلى الظواهر السلبية ورفضها ليست كافية وحدها، بل الحد الأدني المطلوب هو المشاركة في البحث عن الحلول، وأولى الخطوات على طريقها معرفة الأسباب. وهنا ينشأ سؤال: من المسؤول عن اتساع مساحة الترف وسلوكياتها في حياة شبابنا؟ هل الأسرة هي المسؤولة؟ وأين دور المؤسسات التربوية؟ ولماذا لا يؤثر الخطاب الوعظي الكثيف في سلوكنا؟ وهل هناك من يريد أن يبعد الشباب عن القضايا الجادة ويدفعهم – بطريقة غير مباشرة – إلى الهروب نحو الترف والرفاهية؟

أسئلة تحتاج إلى إجابات يجتهد الجميع في البحث عنها إذا كانت قضية الترف تشكل قلقاً للغالبية. وأعتقد أن الثروة المتدفقة على البعض مع انعدام الضوابط التربوية الحازمة وانشغال الكثير من المربين والآباء بالركض لتحصيل الأموال تشغلهم وتجعلهم يتساهلون في "ضبط" الإنفاق على الأبناء "تعويضاً" عن الإهمال.