يؤمن الداروينيون بعلمية نظرية التطور، ويعتبرونها تفسيراً لا دينياً لنشأة الحياة على كوكب الأرض. وهم بذلك يضعون تشارلز داروين أشهر شخصية ارتبط اسمها بنظرية التطور، في خانة علماء الطبيعة، ويتناولون نظريته ضمن إطار علمي باعتبارها نظرية علمية يمكن إثباتها بالأدلة والبراهين. وبالتالي يخرجون نظرية التطور من دائرة الأديان والمعتقدات والأساطير الدينية، ويجعلونها مقابلاً للتفسير الديني لقصة الخلق. صحيح أن نظرية التطور تضاد عقيدة المؤمنين بالأديان السماوية التي تؤكد أن الله، سبحانه وتعالى، هو خالق الأنواع المختلفة من الكائنات الحية، ولكن هذا لا يخرجها حقيقة من دائرة الاعتقاد الديني، فهي أولاً وأخيراً فلسفة دينية تحاول تأويل عقيدة دينية متعلقة بنشأة الكون والحياة.

داروين يعتبر قبل كل شيء فيلسوفاً أكثر من كونه «عالم طبيعة» بدءاً من حقيقة أنه كان مهتماً بالفلسفة، وأعماله تتطلب تحليلاً فلسفياً وتحمل قضايا فلسفية، وإذا قلنا إن الفلسفة مهتمة على الدوام بتأويل العقائد الدينية فلزاماً علينا التعاطي مع نظرية التطور داخل سياقاتها الدينية التي نشأت وتطورت من خلالها. وحسب نظرية داروين التطورية فإن الكائنات لم تخلق من العدم ولكنها نتيجة لعمليات أزلية وقديمة وغير منتهية من التشكل والتحول. هذه الفكرة تتعارض جملة وتفصيلاً مع مبادئ وتعاليم الشرائع السماوية، ولكن هذا لا يعني أنها فكرة إلحادية أو لا دينية، لأن الشعوب اليونانية القديمة لم تكن تعرف في ثقافتها فكرة الخلق من العدم انطلاقاً من إيمانهم بأن العالم قديم وأزلي. ففي الديانات اليونانية كان لدى الشعوب اليونانية عقيدة دينية متعلقة بأصل الكون ومنشأه، باعتبار أن الطبيعة والإله شيء واحد، وبالتالي فإن الطبيعة أزلية ولم تكن مخلوقة من العدم، وهذا ما جعلهم يؤلهون الطبيعة، وفقاً لما يعرف بعقيدة «وحدة الوجود».

من خلال الإيمان بـ«وحدة الوجود» بدأت الشعوب اليونانية تفسير الكون والوجود، سواء كان وجوداً مادياً أو عقلياً أو منطقياً بما ينسجم مع الفكرة الرافضة لخلق الكون من العدم. في كتابها «فلسفة وحدة الوجود» تقول الباحثة العراقية نفلة الجبوري: «فالفكر اليوناني- وإن أبدع آراء وأفكاراً فلسفية خالصة- لم يتولد من الفراغ، فقد سبقته حضارات العراق ومصر والهند وسواء أكان بينهم اتصال مباشر أم غير مباشر يمكن استجلاء أفكارهم عبر الفكر اليوناني، ومن تلك الأفكار جعل الماء أصلاً للوجود، وأن الإله والطبيعة شيء واحد». الإيمان بألوهية الطبيعة يتطلب تفسير عملية الخلق تفسيراً ينسجم مع فكرة أن العالم قديم وأزلي، وأن الآلهة تحل في كل أجزاء الطبيعة، وبالتالي هي القوى المحركة للكائنات، أي إن كل شيء فيه حياة وروح، ومن هنا يمكن تفسير عملية الخلق وفق التصور الدارويني. ويمكن كذلك التأكيد بأن داروين كان مسبوقاً من قبل أساطير الخلق اليونانية ذات البعد الديني التي تفسر عملية الخلق وفق معتقدات دينية لا تعترف بعملية الخلق من العدم.

تقول نفلة الجبوري معلقة على عقيدة الفيلسوف أنكسمانس: «وأما أنكسمانس فيستمر في تبني التفسير الطبيعي لأصل الأشياء مقرراً أن الجوهر الأول واحد لا نهائي ولكنه محدد الكيف. إنه الهواء، منه نشأت الأشياء الموجودة والتي كانت وسوف تكون، ومنه أيضاً نشأت الآلهة وكل ما هو إلهي وتفرعت باقي الأشياء». وكما نرى أن الفيلسوف انكسمانس يفهم الهواء فهماً إلهياً وأن العالم في حياة أزلية مستمرة لأن الهواء روحه وهذا استمرار للتصورات الدينية والأساطير المتعلقة بعملية الخلق التي تتضمن آراء عن التغير المستمر والأبدي لظواهر الكون والحياة. وبحسب أفكار داروين في مسألتي الصراع من أجل البقاء والانتقاء الطبيعي فإن كل الكائنات الحية تعيش حالة من التغير المستمر والدائم في طبيعتها البيولوجية، فالوجود في حالة سيلان دائم ومنسجم مع معتقدات يونانية قديمة ترفض فكرة الخلق من العدم.