لماذا ترجم العرب المسلمون في العصر العباسي كتب الفلسفة اليونانية على نطاق واسع وتحويله لمادة للبحث والدراسة؟ وهل كانت هذه الخطوة هي بداية دخول الفلسفة للمجتمع؟ في الحقيقة لم تكن الترجمة هي البداية الفعلية لتعرف المسلمين على تراث اليونان. يعتقد كثيرون أن الدافع من وراء ترجمة كتب الفلسفة اليونانية كان الإعجاب بأفكار فلاسفة اليونان كأرسطو وأفلاطون، وهذا غير صحيح، فالمسألة أكثر تعقيدًا من مجرد الإعجاب، فالترجمة في العصر العباسي كانت جزءًا من مشروع سياسي ضخم وهو مقاومة الحركات الشعوبية فنخب المجتمع سواء كانوا نخبًا سياسية أم مثقفة يدركون جيدًا أنهم أمام حرب ثقافية، تتطلب التعرف على الخصم الثقافي والتعرف على طريقة تفكيره والأسس الدينية لثقافته. فالحرب بين الشعوب ليست دائمًا عسكرية فقد تأخذ أحيانًا طابعًا ثقافيًا تستخدم فيه أدوات ناعمة مثل الترجمة.

بعد الفتوحات الإسلامية وزيادة معدل أعداد الشعوب غير العربية الداخلة ضمن التركيبة السكانية، لم تتحرر الشعوب غير العربية بعد من معتقداتها الدينية القديمة حتى بعد إسلامها، فلم يزل هناك آثار لكثير من الأساطير الهندية واليونانية القديمة لدى الداخلين حديثًا في بنية المجتمع العربي. وفي محاولة للحفاظ على الوحدة الفكرية والدينية للمجتمع بزغت فكرة الترجمة باعتبارها وسيلة لتناول المعتقدات اليونانية علميًا ومنهجيًا، وبالتالي تسهل عملية تطويقها وتحجيمها كي لا تتغلغل بشكل أعمق في وجدان الناس ويصعب بالتالي محو آثارها.

وما زاد القضية أهمية، مبادرة بعض الشخصيات المثقفة كابن سينا والفارابي بمحاولة الجمع بين المعتقدات اليونانية القديمة والمعتقدات الإسلامية حتى تكون منسجمة مع دين الغالبية، ومن هنا ظهر للوجود ما يعرف بـ (الفلسفة الإسلامية). وفي الواقع لم يوجد حقيقة تاريخية لفلسفة إسلامية وكل ما هنالك شذرات متفرقة من معتقدات يونانية قديمة لم تستطع المقاومة والبقاء، بمعنى أنه لا يمكن التوفيق بين أساطير الشعوب اليونانية القديمة وبين الشريعة الإسلامية دون الوقوع في التناقض، فما طرحه الفارابي وابن سينا لم يكن فلسفة قط ولكنها مجرد بقايا من معتقدات يونانية أريد لها أن تتصالح مع العقيدة الإسلامية بطريقة فيها كثير من التصنع والافتعال.

في كتاب (روح الفلسفة المسيحية) للفرنسي إتين جلسون، الذي ينكر فيه بشكل مباشر وجود فلسفة مسيحية، يقول: «هل يمكن أن نقول لعبارة الفلسفة المسيحية أي معنى حقيقي؟ وهل هناك واقعية تقابلها في التاريخ..؟ ولا بد أن يكون واضحا أننا لا نتساءل هل هناك مسيحيون فلاسفة، أعنى مسيحيين تصادف أن كانوا فلاسفة؟ ولكننا نتساءل بالأحرى عما إذا كان هناك فلاسفة مسيحيون وهو تساؤل يمكن بالطبع أن يثار بنفس الطريقة حول الفلسفة الإسلامية أو الفلسفة اليهودية، إذ يمكن نتساءل هل هناك فلاسفة مسلمون وفلاسفة يهود؟ والمقصود بالطبع هل يمكن الجمع بين الفلسفة والدين في رجل واحد».

بغض النظر عن تعريف جلسون للفلسفة وكيف يفهمها، فإن الفلسفة وعبر تاريخها الطويل لا يمكن فصلها عن الدين باعتبارها وسيلة لتأويل المعتقدات الدينية، وانطلاقًا من هذه الفكرة فإن ترجمة كتب الفلسفة في العصر العباسي وما بعده لا يخرج عن هذا الإطار، هناك أساطير دينية تسربت للمجتمع، وهناك شخصيات مثقفة -ابن سينا والفارابي على سبيل المثال تحاول أن تخلق توليفة وانسجامًا بين أساطير اليونان والشريعة الإسلامية، وفي الطرف المقابل هناك اتجاه مضاد يسعى للكشف عن تناقض الفلسفة وتعارضها مع العقيدة الإسلامية. يقول جلسون في المصدر نفسه: «إننا قد نستفيد من الفلسفة لكي نيسر للناس قبول معتقدات دينية معينة، ونحن في هذه الحالة إنما نحول الفلسفة إلى علم الدفاع عن الدين Apologetics، أو قد نوافق على أن يحكم على النتائج العقلية حسب اتفاقها أو اختلافها مع المعتقدات الدينية». وما ينطبق على «الفلسفة المسيحية» يتكرر مع ما يسمى بــــــ«الفلسفة الإسلامية»، ومن هذا المنطلق نستطيع تبين دوافع الترجمة التي لم تكن بدافع الإعجاب أو نشر العقلانية والتنوير ولكنها جزء من حرب ثقافية كان نتيجتها انحسار وجود الأساطير اليونانية في المجتمع وتضييق الخناق عليها. ولا ننسى أن الثقافة العربية آنذاك كانت ثقافة مهيمنة وقادرة على بسط نفوذها على نطاق واسع في المجتمع.