عندما أتت الرؤية التي طورت وغيرت وجه الوطن أولت أهمية بالغة للصناعة والتصنيع.

وبناء على إمكانات وثروات الوطن فإن الصناعة عنصر رئيسي في اقتصاد المستقبل في المملكة، ومنذ عقود ونحن نكتب عن أعمدة الاقتصاد السبعة التي نراها الآن تم تفعيلها الآن مع الرؤية المباركة، التغيير الذي حصل في البلد لم يكن يتصوره كثيرون لأن البعض كان يضحك عندما كنا نكتب في 2010 أن السياحة ستكون مصدر الدخل الذي لا ينضب! كانوا لا يتصورون أن البلد سيصبح موطن سياحة، وكان البعض يتهمنا بالمبالغة عندما كما نقول، إن التعدين ممكن أن يكون الضلع الثالث مع البترول والبتروكيماويات!

أمور عديدة ونقلة تاريخية للبلد لا يتسع المجال لذكرها الآن، لكن تركيزنا على الصناعة في هذا المقال.

هناك مجالان في الصناعة مهمان للغاية، ما زلنا نشاهدهما بطريقة غير واضحة المعالم أو لربما نحن من لا نراهما بطريقة سليمة.

الصناعة العسكرية والصناعات البيولوجية أو التقنية الحيوية، هما من أهم صناعات المستقبل وما يربطهما أن كليهما شديدا التعقيد ويحتاجان إلى مهارات خاص ولهما ما يمكن أن نطلق عليه لغة خاصة أو ثقافة معينة في الصنعة!

هدف المملكة واضح ومهم جداً للأمن الوطني وهو الوصول إلى 50% تصنيعا محليا من الحاجات الدفاعية بحلول 2030، وهو هدف جبار خصوصاً إذا كنا نعرف أن التصنيع المحلي كان نحو 3% قبل حلول الرؤية رغم أن المملكة من أكبر 5 دول في العالم في الإنفاق الدفاعي لا شك أن بعد الرؤية تغيرت الأمور بشكل دراماتيكي واضح وفعلاً (وين كنا واين وصلنا) وهناك إنجاز ملموس على الأرض الآن هناك سعي حثيث لتطوير الصناعة العسكرية المحلية ودعم كبير للقطاع الخاص، لكن بما أنها صناعة دقيقة وأيضاً لها طابعها الخاص وبيئتها وثقافتها هذا غير تداخل عدة عوامل أخرى سياسية وغيرها فيها، فإننا نرى عديداً من القطاع الخاص وبعض القطاعات الأخرى لم تتفهم وتستوعب هذه الصنعة باحترافية بعد، ورؤيتهم لها محدودة، عندما تكون متابعا ومهتما في هذا القطاع لسنوات طويلة وتحضر فعالياته من شرق الأرض لغربها وتشاهد مستجداته بل تعيش الحقب الزمنية من حقبة إلى أخرى وبعد كل هذه السنين يمكن أن ترى وتسمع التوجه العام والمستقبلي للقطاع، ولكن للأسف بعض التجار أو رجال الأعمال إلى الآن لم يستوعبوا الصنعة (التصنيع العسكري) عندما تتحدث إليهم تجدهم لا يتكلمون لغة وثقافة التصنيع العسكري، فما بالك بطريقة رؤيتهم للمستقبل! قطاع التصنيع العسكري ليس قطاع وكالات ووكيلا محليا، وليس مشابها لقطاع السيارات ووكلائها مثلاً، فهو تصنيع وليس وكيلا أو ممثلا للشركة الفلانية، والشيء الآخر إحضار بعض المعدات وتجميعها أو تغيير اسمها أو صبغها باللون الصحراوي ليس تصنيعاً عسكرياً، والشيء الأهم أن تصنيع معدات عفى عليها الزمن أو تغيرت العقيدة والتكتيكات العسكرية الحديثة وقل استخدامها ولم تعد ذات جدوى للجيوش الحديثة أيضاً ليس تصنيعاً عسكرياً بل تصنيع معدات بالية عفى عليها الزمن، والجيش السعودي جيش حديث لا يقبل إلا الجيد والملائم والعصري، فلا يحتاج إلى تضييع أموال وجهد ووقت في أمور من دون عائد!

المجال الثاني التي أرى أن هناك عدم استيعاب وعدم وضوح فيه من العديد من القطاع الخاص هو الصناعة البيولوجية والتقنية الحيوية، تتشابه مع الصناعات العسكرية في أنهما معقدان ودقيقان للغاية ولهما لغة وثقافة وصنعة خاصة مختلفة عن بقية المجالات مع اختلاف الاستعمال كلياً فهذه لشفاء الإنسان والأخرى مختلفة كلياً، للأسف هناك اعتقاد وفهم خطأ أن صناعات التقنية الحيوية مثل صناعة الأدوية التقليدية وكأنك إذا لديك يا رجل الأعمال صيدليات تستطيع غداً تصنيع أدوية المناعة الحيوية! وهناك اعتقاد أكثر خطأ من أنه لو أحضرت طبيبا إكلينيكيا معك للإدارة فإنه يعلم كل شيء عن الصناعات الحيوية والتقنية الحيوية، وهذا مجال مختلف كثيراً عن الطب التقليدي، بل لغته غير متشابهة، ما زلت أذكر أحد الزملاء الأطباء الإكلينيكيين حضر معنا أحد الاجتماعات في صناعة التقنية الحيوية لعلاج حيوي، وبعد نهاية الاجتماع ذكر لنا أنه لم يفهم كثيراً مما دار بالاجتماع كأننا نتكلم لغة أخرى لا يعرفها، فيه تفاصيل معينة يلم فيها أهل الصنعة، لست أدعي أني ملم بكل شيء و«أن لي وصل بليلى» ولكن لما تكون في نفس هذا المجال لنحو عقدين وبشكل يومي حتى لو كان فهمك ثقيلاً في الأقل تفهم قليلاً وستعرف تتكلم اللغة وتعرف التوجه المستقبلي وتعرف رواداً ولاعبين محترفين في الصنعة، وللأسف عندما نتحدث مع بعض القطاع الخاص ستستنتج بسهولة أن المجال في واد وربعنا في واد آخر!

سأضرب مثالا للتوضيح وفرق الخبرة بين هذين المجالين أعلاه عن بقية المجالات وأيضاً كيف تعرف أنك وصلت إلى مرحلة أنك عليم ببواطن المجال!

النفط مثلاً، الخبراء السعوديون عليمون ببواطن وأسرار ودهاليز الصنعة، وكيف يعرف الشخص أنه وصل إلى سر الصنعة إذا أصبح متنبئاً بمستقبل المجال وتوقعاته معظمها صحيحة، وهذا ما نشاهده من الخبراء السعوديين في النفط توقعاتهم دائماً ما تكون سليمة ودقيقة لذلك الكل ينتظر تصريحات وتوقعات السعوديين، قد يقول قائل هذه مقارنة غير عادلة، فالنفط نعرف أسراره كسعوديين منذ عقود بينما هذه صناعات حديثة جديدة علينا! وإلى حد ما أتفق مع هذا، لكن دعونا تنفق أن من يملك المعرفة لرؤية الاتجاه المستقبلي ويرى النمط ويحلله وتوقعاته المستقبلية للاتجاه العام معظمها صحيحة، فإنه يمكن أن نطلق عليه خبيرا أو عليما في سبر أغوار هذا المجال! لكن في كلا المجالين (الصناعة العسكرية والتقنية الحيوية) لم نر فهماً متكاملاً للمنظومة الحالية العالمية فما بالك بقدرتهم على إطلاق توقعات للاتجاه المستقبلي ومن ثم معايرة البوصلة في ذلك الاتجاه.

ما السبب الذي نعتقد أنه أدى إلى ضبابية القطاع الخاص وبعض القطاعات الأخرى في هذين المجالين؟

جزء من السبب هو التسرع لدى بعض القطاع الخاص الذي تعود على السهل والعقار ولا يعلم أنه دخل معترك إحدى أعقد الصناعات والموضوع ليس موضوع وكالات، ولكن الجزء المهم من السبب أعتقد أن بيوت الخبرة والشركات الاستشارية! وما أدراك ما الشركات الاستشارية؟! التي تفلح وتبدع في إعطاء أفضل البرزنتيشنات (العروض التقديمية) الجذابة المزبرقة ولكن الواقع شيء آخر كليا! وليس لديهم علم في واقع هذه الصناعات! وأعتقد أن كثيرين يعرفون أن الشركات الاستشارية لا تقدم كثيرا من الحلول الإبداعية بكثر ما هو إعادة تدوير لنفس كلامك لكن على هيئة عرض تقديمي جذاب (بواربوينت)، لو سالتهم أي سؤال سيعطونك 3 سيناريوهات كالعادة، لو سألت إحدى الشركات الاستشارية مثلاً هل يوجد في القربة ماء؟ سيرد عليه بثلاثة سيناريوهات معروفة، احتمال فيها ماء كاف (السيناريو الوسطي) واحتمال أن تكون مليئة بالماء (التفاؤلي) واحتمال خالية من الماء (التشاؤمي) لكن لن يذهب ويرى بنفسه إذا كان فيها ماء أو لا وهذا ما يهمك.

طبعاً البعض أصبح يحب جداً الشركات الاستشارية لأنها أصبحت (علاقة) إذا صار ما صار سيلوم الشركة الاستشارية وأخلى مسؤوليته، لدرجة أن العبارة الدارجة حالياً (حطها بظهر الاستشاري!) فأصبح (مصداً) وعلاقة للأخطاء، والاستشاري خصوصاً إذا كان من الشركات الكبرى الأربعة وأخواتها، عارف الموضوع هذا فزاد في سعر ختمه على الدراسات لأنه أصبح (مصداً)، وفي الوقت نفسه عنده حجة بالسيناريوهات الثلاثة سيقول انظر إلى السيناريو التشاؤمي! انظر إلى صفحة كذا آخر سطر بخط صغير ماذا قلنا؟! ويعرف أنهم سيتعاقدون معه لاحقاً لمشروع جديد!

لست أقول إن هاتين الصناعتين مستحيلتان بل هما ممكنتان جداً خصوصاً في وجود الدعم الكبير من الرؤية وقائدها الفذ، وأعلم أننا، بإذن الله، سنصل إلى الهدف، لكن نحتاج إلى تركيز ووضوح أكثر، وعندنا دول كثيرة نجحت في هذين المجالين وبدأت من شبه القاع، وقد كتبنا سابقاً عنها ففي مجال الصناعة العسكرية لدينا مثال كوريا الجنوبية وتركيا وفي صناعة التقنية الحيوية لدينا سنغافورة وبلجيكا الخ..

لدينا من الموارد والإمكانات، والأهم لدينا القيادة الشجاعة الداعمة أكثر مما كان لديهم، ولدينا قائد لديه الشغف والعزم والإرادة للنجاح والوصول للأهداف، لذلك على الجميع أن يتكاتف ويساند والجميل في الرؤية أنها رؤية ديناميكية ومرنة لذلك تتكيف وتتعدل وتراجع بناء على الأحداث والتطورات والتقدم، لذلك هذان المجالان لدينا الوقت لإعادة هيكلتهما وتعديل استراتيجيتهم للوصول لأهداف 2030.