لفظُ (المستقبل) له بريقٌ غامض، تحوّل إلى مصطلحٍ يحمل دلالتَه التي تُرهِق واقعَ الحياة، فليس كُلُّ ما هو (أمام) مُستقبلًا، بل لا بدَّ أن يكون (أَمَامًا) من نوعٍ ما. ومن هنا جاءت المواقف الفكرية المتعددة.

أمَّا هذه المقالة فتقول إنَّ كلَّ قطيعةٍ وكارثةٍ وخرابٍ هي مستقبل، ومن ثمَّ ما بعده هو انطلاق مُتعدّد، يحملُ شَظايا من هذا المستقبل، لكنَّه يُثبتُ أنَّ فكرةَ (حتمية المستقبل) -القائم على مسار محدد، ونظرية شاملة- لا لونَ لها، ولا رائحة. ويُثبتُ -أيضًا- أنَّ (بناء المستقبل) بتخطيطٍ يعتمد على تنبؤاتٍ ممكنة، هو وجه آخر من تصوّر شكلٍ للمستقبل. كما أنَّ وجودَ القطيعة العائدة باستمرار، يمنع وجودَ حلٍ مُطّرد لما يسمى المستقبل؛ وهذا يعني أنَّ أصحابَ الحلِّ المنطقي -القائم على بناءِ المستقبل بصورةٍ مطردة بأعمال متعاقبة مصممة؛ لأجل الوصول لشكل مستقبلي مرغوب- هم يفكرون بعقلية الحتميين، ووجه الشبه من زاويتين: الأولى: الإيمان المطلق أنَّ قدرةَ الإنسانِ على الطبيعةِ ومن ثم التاريخ وصلت لمرحلة مستقرة وعالية جدًا، والثانية أنَّ تاريخَ الإنسانِ وجغرافيّته واحدة. وسأطرحُ (بنمطِ كتابتي) مثالين لبيانِ معنى مختلف يَعقدُ الصلةَ بين الفلسفةِ، والشعر بمعناه الشامل؛ الأول: في اليابان؛ فما إن يُذكر اسمُ (هاياو ميازاكي)، إلا ويحضر عملُه الشهير عربيًا (مغامرات عدنان)، تلك المغامرات التي كانت تنقلُنا إلى مستقبلٍ مجهولٍ، نشعر أنه جميل ومخيف في آنٍ واحد. لم نكتفِ باسم عدنان، بل أضفنا إليه (لينا)؛ ليكونَ الاسم (عدنان ولينا)، وكأنَّنا انتصرنا للينا من خاطفيها، ومن طمسِ اسمها في بطولة الحكاية؛ سواءً في أصلِ الاسم (فتى المستقبل كونان)، أو في لحظة إنتاجه عربيًا (مغامرات عدنان). هذا العمل ينتمي لخيالِ ما بعد الحربين العالميتيْن، ذلك الخيال الذي تحوَّلَ إلى (واقعٍ) يُفكِّر بالخراب أو الكارثة التي تُعلن نهايةَ العالم، ومن ثم تبدأ مسارًا آخر.

المخرج ميازاكي شَهِدَ -وهو طفل- آثارَ الحرب العالمية الثانية؛ وأدرك أبعادها شابًا؛ فكانَ موضوعُ المستقبلِ مُهمًا في صنعِ اتجاهاته الإبداعية؛ لهذا جاءَ فيلمه (مهبّ الريح)، الذي وصفَ به بَشاعةَ ما حلّ باليابان في الحربِ، بلفظةٍ -ظلت ترددها شخصية في الفيلم-اخترقت بالمعنى وجدانَ المُشاهِد: «الخراب...الخراب». ويحضر -بحضور هذا المعنى- سؤالُ: ما المستقبل؟

المستقبل -في سياقنا- هو وقوع الكارثة أو الخراب، أو ليكن لحظة فاصلة حاسمة تأخذ معنى القطيعة الجذرية، فتشطر الحياةَ، إلى ما قبل القطيعة وبعدها. ومن ثم يأتي معنى (الريح) ليكون ما بعد المستقبل. ومن هنا رأينا إحدى شخصيات الفيلم تقول: «الريح تهبّ؟ إذن عليك أن تحيا».

ومسلسل (عدنان ولينا) يحكي ما بعد المستقبل/نهاية الحرب العالمية (الثالثة) بعشرين سنة. هل من الدقةِ أن أذكر أنَّ سنةَ الحرب العالمية الثالثة المتوقعة في (عدنان ولينا) كانت في 2008، وهي سنة كارثية/خراب اقتصادي؟.

يمكن أن يكون فيلم (مهب الريح) يؤسِس منطقةً بين (مفهوم) الخراب و(دلالة) الريح..، إذ نلحظ أنَّ ميازاكي، مخرج يخلق الذاتَ، لا مخرج تقليدي يتحرك في وسطٍ مُتَشكِّل الذات مسبقا. فهو لا يُخرج أفلامًا لذواتٍ حقيقية، بل يَخلق أشخاصًا فيحركهم باتجاه المعنى. أليس ذلك جوهر الرسوم المتحركة؟ أليست تلك مهمة بساط الريح أيضًا، حين ينطلق فضاء الخيال فيما يعجز عنه الجسد؟ ثم أليس في الرسومِ المتحركةِ ما يدعونا لاستعادة معنى الوجود في ذاته، وترك الوجود الموضوعي؟

أمريكا شَنّت حربًا بلا رحمة على اليابان، كما يصفها الفريق في الجيش الأمريكي (بونير فيليرز) يقول: «إنها من أشد عمليات القتالِ الوحشيّة التي شهدها التاريخ؛ لأغراضٍ غير عسكرية». إلا أنَّنا سنلحظ أنَّ ثمةَ نموًّا مُستأنفًا لليابانِ الخَربة بعد القنابلِ النوويةِ الأمريكيةِ، نموًّا يُشبِهُ المكانَ الذي انطلقت منه القنابلُ. وبعبارةٍ إعلاميةٍ أمريكيةٍ تقليدية: (إنها تتخلى عن تقاليدها وتنحاز لتقاليدنا). هل هذا يوضح شيئًا في معنى الريح، ما بعد المستقبل؟ ونلحظ أنَّ فيلم ميازاكي يُترجَم بــ(مهب الريح) و (صعود الريح)، مما يجعل المعنى يتحدّد صعودا بعد هبوط.

الثاني: في فلسطين، إذ يأتي محمود درويش وقد شهدَ -وهو في السابعةِ من عمره- الاحتلالَ الصهيوني لفلسطين؛ ويشترك مع ميازاكي، في أنهما ولدا في الثلثِ الأولِ من عام 1941. فقرآ ما بعد المستقبل بعيون كوارث كبرى. ودرويشُ ولِدَ في قريةِ البِروة، شمالِ فلسطين، وهي من القُرى التي دمّرها الاحتلال الصهيوني، وقد ظلَّ يستحضرها في شِعره برمزيةٍ وجوديةٍ. وظلّت قصائده تُدخِل وعيَ الناس للقضية الفلسطينية عبر الشعر، ولا تدخلهم للشعر عبر القضية. وفي أولِ ديوانٍ مُعتمدٍ؛ وهو (أوراق الزيتون)، كتبَ عن الصمود، قائلا: «يا حكمةَ الأجدادِ/لو من لحمنا نعطيكِ درعا. لكنّ سهل الريح/لا يُعطِي عبيدَ الريح زرعا». أشار درويش -في مجلة الجديد عام 64م- بأنَّ في ديوانه هذا محاولة للعثورِ على مبررٍ لصمودِ الإنسانِ أمامَ هذا العذاب/الخراب. ربما المبرر هي الريح، هي ما بعد المستقبل، ألم يقل درويش في قصيدة (أغنية إلى الريح الشمالية) «ونوافذ في الريح/تكتشف المدينة في القصيدة».؟ هذا الاكتشافُ يصهر الشعرَ بالفلسفة...؛ فهل مفهوم الخراب -إذا عُولِجَ فلسفيا في ظلِّ مجالٍ ليس فلسفيًا- يُوصلنا لمعنى الريح شعريًا؟ وذلك باعتبار القولِ الذي يضع مسافةً بين الشعرِ والفلسفةِ، من حيث إنَّ الأخيرةَ تعتمد المفاهيم، لا المجازات والصور.

إذا صهرنا الشعرَ بالفلسفةِ في ظلِّ مقولةِ درويش السابقة؛ سنستحضر قولا آخر لدرويش، يُكمل المعنى: «والمدن استراحت في مهبّ الشمس». مهبّ الشمس في القصيدة حلَّ محلَ مهبِ الريح في الفيلم، مما يجعل المعنى يأخذ صورتَه المتّحدة: (الريح هي الشمس). وليس لنا من الشمس إلا الوجود. ألم أقل سابقا: أليس في الرسومِ المتحركةِ ما يدعونا لاستعادة معنى الوجود في ذاته، وترك الوجود الموضوعي؟

التفاتة:

من أمثالِ العربِ: «إذا كثرت المؤتَفِكاتُ، زَكَت الأرض». ومرادهم بالمؤتفكات هنا: الريح التي تُقلِّب الأرض فيزكو نباتها.