كل لغات العالم دون استثناء تملك منطقًا داخليًا يجعلها مفهومة في محيطها الاجتماعي وبين الأفراد. والتمتع بخاصية المنطق الداخلي يعني بالضرورة وجود استعمال صحيح واستعمال خاطئ للغة، خلافًا لما يعتقده كثير من دارسي اللسانيات الحديثة الذين يرفضون وجود ما يعرف بالاستعمال الصحيح اللغة، ويعتقدون بأن اللغة يجب أن تعامل كما هي وكما يستعملها عامة الناس. مثل هذا الاعتقاد ينطوي على جملة من التناقضات، فمن يرفض حقيقة وجود لغة معيارية ذات نحو ومعجم معياريين فهو يتبناها بوعي أو دون وعي منه ويراعيها في حديثة واستعماله سواء كان ذلك في سياق حياته اليومية أو في مناسبات خاصة تفرض عليه تبني الشكل المثالي للغة.

في الثقافة العربية وتراثها ينصرف مفهوم (الفصحى) إلى الشكل المعياري أو اللغة في مستواها الأعلى، فالعربية الفصحى تمثل الصورة المثالية للغة التي يطمح كثير من الناس لإتقانها، فهناك حقيقة لا ينكرها أحد أن الناس يعاملون انطلاقًا من طريقتهم في الكتابة والقراءة فهذا يعكس مقدار ثقافتهم وخلفيتهم العلمية. فكل لغة تنشأ في حضارة ما يرافق نشأتها تكون شكل لغوي أعلى يفضي تحريفه بسبب انتشار اللحن بين العامة إلى نشوء العاميات أو الاستعمال المحرف للغة. تزداد أهمية الاستعمال الصحيح للغة الإنسانية مع ازدياد نسبة المتعلمين في المجتمع، فالطبقة المتعلمة والمثقفة في أي مجتمع تطمح لاستعمال شكل أرقى للغة، وهو سلوك طبيعي في كل المجتمعات البشرية، أو لنقل بأن اللغة الإنسانية بطبيعتها تفرض وجود مستوى أعلى على المتحدثين بها.

والسؤال الأهم هنا، من يملك الحق في تحديد الاستعمال الصحيح للغة من عدمه وكيف يتشكل النموذج المثالي للغة؟ دعونا نأخذ اللغة الإنجليزية البريطانية مثالًا حيًا. فالإنجليزية البريطانية تمتلك شكلًا مثاليًا أعلى يحدد مدى الاستعمال الصحيح ويميزه عن الاستعمال الخاطئ للغة الذي يتفشى بين العامة بشكل طبيعي. الشكل المثالي للإنجليزية البريطانية يشيع في وسائل الإعلام الرسمية وفي كتب الأدب الإنجليزي وبين النخبة المثقفة والمبدعين في الأوساط العلمية والأدبية. لم يكن الشعب البريطاني حرًا في تبنيه للشكل المثالي للغة، فالإنسان لا يملك حرية الاختيار عندما يتعامل مع اللغة، ليس لأن هناك فئة متنفذة تفرض عليه شكل لغوي معين ولكن لأن اللغات بمستوياتها كافة تكتسب بشكل خارج عن إرادة الإنسان.

في كل لغة هناك جانب أيديولوجي يحدد منطقها الداخلي وصورتها المثالية وقواعدها المعيارية، يتشكل هذا البعد لا إراديًا عبر مسيرة تاريخية طويلة وتحولات اجتماعية كبرى. في الإنجليزية البريطانية يلعب الأدب الإنجليزي دورًا محوريًا في تشكيل الأيديولوجيا اللغوية، بما يحمله من مبادئ سامية ومُثُل عليا لتعزيز التعاطف بين أفراد المجتمع ولارتباطه الوثيق بغالب التحولات الاجتماعية ونشأة الرأسمالية الإنجليزية والطبقة البرجوازية التي أهلت بريطانيا لتكون أحد القوى الرأسمالية الصناعية في العالم. فالأدب الإنجليزي يمثل للشعب البريطاني دافعًا إلى الافتخار بلغتهم القومية وأدبهم الرفيع، وبالتالي أصبح معيارًا يحدد الاستعمال الصحيح والصورة المثالية للغة. وأصبح للإنجليزية البريطانية نظام كتابة متفق عليه وأُلف لها العديد من كتب القواعد والمعاجم. ما يميز الصورة المثالية للإنجليزية البريطانية تمتعها بتراث أدبي ضخم وواسع وممتد عبر الأزمنة المتتالية التي مر بها المجتمع الإنجليزي، فالأدب الإنجليزي كان دائمًا محل احترام وتقدير كونه اتصال بماض زاهر مجيد، ومن هذه الزاوية اكتسبت اللغة الإنجليزية أيديولوجيتها المحددة لصورتها المعيارية.

حاز رموز الأدب الإنجليزي مثل شكسبير وميلتون وتشارلز ديكنز وجين أوستن، مكانة رفيعة تعادل، وأصبح مجمل أعمالهم الإبداعية مرجعية أيديولوجية لترسيخ الإحساس بالهوية القومية والانتماء الثقافي وتشكيل الجماعة العضوية التي ينضوي تحتها الأفراد. وأصبحت لغة الأدب الإنجليزي لغة مشتركة لا تنتمي صفاتها أو عناصرها إلى بيئة محلية أو جماعة بشرية بعينها. فاللغة المشتركة بأيديولوجيتها المميزة تتسامى على أي تحيزات ضيقة لذلك استطاعت أن تفرض استعمالها الصحيح على شريحة واسعة من الناس، هذه الأيديولوجيا لا تحدد فقط القواعد الصحيحة والألفاظ الفصيحة من عدمها ولكنها تكشف كذلك الميول والانتماءات الثقافية للمتحدثين.