رتب الشيخ ياسين الرواف، معتمد المملكة العربية السعودية في دمشق في ذلك العهد، رحلة لفتح طريق الحج البري للسيارات عام 1935م، واصطحب في هذه الرحلة البرية على السيارات القادمة من السعودية وفدا سوريا مختارا، كان منهم الشيخ علي الطنطاوي الذي وصف رحلته آنذاك، وكان منها وصفه للقريات التي ذكر فيها:

وقريات الملح قرى ست متقاربة أكبرها قرية (كاف) ولكنها لا تحوي نصف سكان (حلبون) أبعد قرى الشام ولا تبلغها كبرًا واتساعًا. وهي في غور من الأرض. وكان أول ما استقبلنا منها الحصن، وهو حصن كبير من الحجر الأبيض المسنون، علمت أن الأمير نواف بن النوري بن الشعلان هو الذي بناه منذ خمس وعشرين سنة، ولم أجد من أستزيده من خبره.

والقريات اليوم إمارة، وهي مقر الأمير، ومما رأينا في الحكومة السعودية أنهم يسمون كل من يلي مدينة مهما صغرت أميرًا، لا فرق في ذلك بين أمير القريات هذه وبين أمير المدينة المنورة.

وكان الأمير يومئذ غائبًا في مكة يشهد الموسم، يقوم مقامه ابن أخ له، وهذه البادرة فاشية في الحجاز، إذا غاب الأمير أناب عنه ولدًا له أو قريبًا، وكان نائب الأمير في قرية أخرى من القرى الست. فلم نلقه، ولكنا لم نعدم من يستقبلنا ويكرمنا، وغاية الإكرام (كما رأينا) أن ندخل القصر وتوقد النار في زاوية البيت الذي جلسنا فيه ويشعل فيها الغضا، هذا الذي يضرب بحرّه المثل، والذي ذكره الشعراء فأكثروا، وكنوا به عن نجد مهوی الأفئدة منهم، وقد رأيته مرارًا فوجدته كثيرًا في البادية وهو كالمشمش غير أنه أجمل شكلًا وأدق ورقًا، وهو أشد شجر رأيناه في البادية اخضرارًا، أما جمره فكالفحم الحجري ولا مبالغة: وقد عرفه الشاعر حين زعم أنهم (شبوه بين جوانحه وضلوعه)، أما نحن فعرفناه في هذا البيت حين أشعلوه وزادوا في إضرامه حتى بلغ لهيبه السقف، ثم قربونا منه وأجلسونا الى جانبه. فلما (تقهوينا) ونلنا حظنا من الإكرام البالغ سألونا سيارة تأتي بالأمير، ودعينا إلى دار أخلوها لنا. وكانت دار مفتش الحدود (عبدالعزيز بن زيد) وهي أكبر دار في القريات وأجملها إلا أنها خالية لا شيء فيها. ففرشنا فيها ما كنا نحمل من بسط وفرش وإحرامات ولم أبتئس أنا بخلوها. فقد كان بساطي وإحرامي أحب إلي من كل ما يمكن أن يفرشوه فيها. ولما اطمأننا على أمتعتنا وعلى مكان مبيتنا. خرجنا نجول في القرية فإذا هي بيوت من الطين قائمة على (شاطئ) الرملة يحف بها نخل قليل وفيها حقول تزرع فيها بعض الخضر. وتسقى من عين جارية وفيرة، تقوم بري قسم كبير من الأراضي لو كان هناك مال. وكانت هناك أيد عاملة تسعى في توسيع الأراضي الزراعية وتحسين زراعتها. ويحيط بالبلدة وبساتينها ورملتها صخور أهرامية هائلة، رهيبة المنظر. تمتد من حولها كأنها سور إلهي. وحياة هذه القرى من الملح الذي يستخرج من السباخ الكثيرة القريبة من البلد، ويصدر إلى حوران وشرقي الأردن.

بتنا في دار ابن زيد هذا خير مبيت. وقد جاؤونا بالعشاء من قصر الأمير. فلما أصبحنا غدونا عليه. فرأيناه شابًا ذكيًا ليس بالمتعلم ولكن له مشاركة في بعض علوم الدين. ويحفظ شيئا من أحاديث النبي ﷺ. تلقاها في مجالس العلم. وتلك سنة حسنة استنها الإمام عبدالعزيز حفظه الله. فجعل ليله كله للعلم. يأتي مجلسه العلماء فيقرؤون فيه كتابًا. فإذا أتموه شرعوا في غيره، وتكون مناقشات علمية يشترك فيها بنفسه. وقد قلده الأمراء جميعًا في ذلك. فمن هنا ما يحفظ هذا الشاب نائب أمير القريات.

استقبلنا بنفسه على عتبة الباب ببشر وإيناس، وجلس معنا يحدثنا ونار الغضا تلفح وجوهنا. ولبثنا على ذلك ساعة لم يدع فيها الأمير دقيقة واحدة قولة: قهوة، شاهي، شاهي، قهوة، ثم أديرت علينا الجمرة وفيها البخور، بخور العود. فلم ندر ما نصنع بها، ثم وجدنا الأمير يضم عليها طرفي كوفيته أو عباءته حتى يتعشق الطيب ثيابه. ثم يدعها فصنعنا مثله، وانتهى العبد من إدارة المجمرة، فرأيت الأمير ينظر إلينا.

فقام الشيخ الرواف واستأذن، وقمنا معه على أن نجتمع الظهر بالأمير على الغداء. فلما خرجنا، قال الشيخ الرواف، ألم تسمعوا المثل النجدي؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: «إذا دار العود فلا قعود، فعلمت سر نظر الأمير إلينا، وتمنيت لو دخل هذا المثل بلادنا، حتى عرفه الناس. ثم ذكرت أن عندنا، بحمد الله. من لا يفهم بالعود ولا بالعصا، ولا يخرج من زيارتك حتى تخرج غيظًا من جلدك.

خروف برأسه

إن من دأب العادة أنها تضعف الحس، وتذهب بالانتباه، فالغني الذي يلبس الحرير، وينام على السرير. ويركب السيارات. ويملك العمارات لا يجد لذلك اللذة ما يجد الفقير المعدم. والبائس المحروم إن نال مثله، والشبعان لا يدرك اللذة التي يتوهمها الجائع، والصحيح لا يعرف لنعمة الصحة قدرها إلا إذا مرض، فلا لذة في الدنيا إلا في التنقل والتبدل، وألا تجمد على حال مهما حسنت في ذاتها. وهذا ما أراده الشاعر حين قال:

ولذيذ الحياة ما كان فوضى ليس فيه مسيطر أو نظام

من أجل ذلك أحسسنا حين ذهبنا إلى غداء الأمير، ورأينا عادات لم نألفها. وطرائق في الطعام لم نعرفها، بلذة التبدل، والاستمتاع بالجدة، فما كاد يستقر بنا المجلس حتى أقبل العبيد فمدوا سماطًا على الأرض، ووضعوا عليه قصعة هائلة كان يحملها منهم اثنان، وقد ملئت رزًا وألقي فوقه خروف كامل بيديه ورجليه ورأسه. إي والله كأنهم (والله أعلم) خافوا أن نشك فيه فنحسبه دبًا أو فيلًا أو قطًا، فأبقوا على الرأس دليلًا قاطعًا على أنه خروف أصيل من أمة الضأن لا من شعب الثعالب، وكان الخروف مفتوح العينين. ناعس الطرف. فأخذتني الشفقة عليه. وتوهمت أنه ينظر إلينا، وأنه ثم رأيت أن لا مجال للوهم ولا للخيال، وأن الوقت لا يتسع للأدب لأن القوم أحدقوا بالقصعة وشمروا عن سواعدهم، ونظروا شزرًا. فعل من يقدم على معركة. فخشيت أن يذهبوا بالرز واللحم، ويبقى لي الخيال والوهم. ومتى أفاد الخيال جائعًا. أو أجدى الأدب على إنسان؟

وكان أصحابنا يدورون بعيونهم يفتشون عن ملعقة أو سكين أو شوكة فما وجدوا شيئًا من ذلك: وأبصروا القوم يأخذ أحدهم قبضة من الرز. فيديرها في كفه. ويعصرها حتى يقطر منها السمن. ويحركها كما يحرك اللاعب الكرة قبل قذفها. حتى إذا اطمأن إلى أنها صارت كالقنبلة قذف بها في حلقه. فما استقرت بإذن الله إلا في معدته، لا تقف في الفم. ولا تمسها الأسنان. وطفق أصحابنا ينظرون إليهم ويعجبون، ثم أقبلوا يأكلون كما يأكلون. ولبثت منتظرًا أقول لنفسي وأنا أحاورها لأقنعها: من أين تأكلين إذا لم تجاري وتماشي. وتستعدي لقبول كل ما تأتي به الحال؟ وإني لفي تفكيري. إذ حانت مني التفاتة، فوجدت القصعة قد تكشفت. والخروف المسكين قد تناثر لحمه، وبدت عظامه فمددت يدي آكل كما يأكلون. وقد علمت أن شر طعام خير من الجوع. والرز يتفلت من بين أصابعي والسمن يملأ كفي. فإذا رفعتها إلى فمي، نقط من مرفقي. ولم يكف القوم ما كانوا قد وضعوا من السمن. بل عمدوا إلى كؤوس يحملونها. فملؤوها وصبوا ذلك أمامنا حتى ما نستطيع من كثرة الدهن أن نأكل. ولم يكن الرز ليستدير في يدي استدارته في أيديهم. بل كان يدخل بين أصابعي. حتى اضطر إلى إدخالها جميعًا في فمي وغسل وجهي كله بالسمن، وانقضى الطعام. ولا تسألني، أشبعت أم لم أشبع، كي لا يطول سؤالك كما طال في هذه الرحلة عطشي وجوعي.

ثم جاؤونا ونحن في مجالسنا، بطست عليه مصفاة قد وضعوا فوقها قطعة صابون، وإبريق يصبون منه على أيدينا على نحو ما كان يصنع في دمشق قبل عشرين سنة، ولم تكن تلك طريقتهم في الغسل. وإنما يكون مثلها في مجالس الأمراء والمتحضرين من العرب. أما البدو، فيجزئهم الرمل. وقد بلغنا عن بعض البدو في جهات الشام، أنه إذا كانت وليمة أو غداء كالذي نصف. خرج الضيوف فمسحوا الدهن الذي في أيديهم بباب الخيمة. وعندهم أنه كلما ازداد عليها من الدهن ازداد كرم الرجل وفخاره.

موقع محافظة القريات بالنسبة لمنطقة الجوف

تقع محافظة القريات في الركن الشمالي الغربي من منطقة الجوف. يحدها من الشرق محافظة طريف وجزء من النطاق الإداري لمدينة سكاكا، ويحدها من الشمال والغرب الأردن. ويحدها من الجنوب جزء من النطاق الإداري لمدينة سكاكا (مقر إمارة منطقة الجوف) وكذلك يحدها الأردن من الجزء الجنوبي الغربي. تبلغ مساحة محافظة القريات 8.000 كم2.

تبعد محافظة القريات عن مدينة سكاكا (مقر إمارة المنطقة) نحو 365 كم باتجاه الشمال الغربي ويربط بينهما طريق أسفلتي. وتعد محافظة القريات الأبعد بالنسبة إلى مدينة سكاكا مقر إمارة المنطقة بالمقارنة مع مقر محافظة دومة الجندل.

بلغ عدد سكان مدينة القريات حسب تعداد السعودية 2022م (195.016) نسمة.

وهي من المحافظات ذات الموقع الاستراتيجي، حيث تقع على الطريق الدولي الرابط بين المملكة والمملكة الأردنية، وتضم المحافظة 7 مراكز (3 فئة أ + 4 فئة ب). وبها منفذ الحديثة (25 كم).

والقريات جمع قرى منها: (كاف، العقيلة، غطي، الناصفة، جماجم، الرديفة، قليب خضر، إثرة، منوة، عين الحواس، القرقر).

والملح هو أكثر ما كانت تشتهر به هذه المدينة قديمًا لأن أرضها ملحية؛ ولذلك سميت قريات الملح، وكذلك أيضا تسمى القريات في القدم بالنبك الفوقي، وتشتهر حاليًا بالزيتون فزيت القريات من أجود الزيوت في المملكة العربية السعودية.