رغم كل السلبيات المرتبطة بتراث الاستشراق وخطابه الأكاديمي، يظل نتاجًا فكريًا يستحق الدراسة والتأمل. صحيح أنه يحمل جملة من التحيزات، سواء عرقية أو ثقافية، ويتعامل مع شعوب الشرق باعتبارها شعوبًا أدنى في سلم الحضارة، لكن هذا لا يلغي قيمته العلمية على كل حال، وهذا ما أشار له إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق). فسعيد تعامل مع الاستشراق بصفته مثقفًا أو لنقل بأنه لعب الدور المتوقع من المثقف في تعاطيه مع الاستشراق.

المستشرقون ومع كل التحيزات المضمرة في خطابهم، يستخدمون أدوات ذات طابع علمي لدراسة الشرق ومعتقداته، ومعرفة كيف تفكر شعوبه، وما مقدار تأثير تراثهم الديني وأدبهم القديم في سلوكهم المعاصر، وبالتالي كيف يمكن التعامل مع تلك الشعوب -سياسيا واقتصاديا- انطلاقًا من معرفة تاريخهم وتراثهم الديني والأدبي وكيف يتأثرون به. ومع جدية الدراسات الاستشراقية وعلميتها المفرطة، لم تقدر على إخفاء (عقدة التفوق) في خطابها العام، وانعكس ذلك على طرح صورة نمطية متخيلة وغير واقعية عن الشعوب الشرقية.

في المقابل كيف يقرأ المثقف العربي الفلسفة؟ الفلسفة باعتبارها تراثًا يونانيًا ما زالت تؤثر في الفكر الأوروبي المعاصر وتوجه سلوك الشعوب الأوروبية، سواء في الجانب السياسي والاجتماعي أو في الجانب الإبداعي والأدبي (الرواية والشعر)، أو حتى في الجانب الترفيهي (السينما وألعاب الفيديو والموسيقى). الثقافة الأوروبية المعاصرة تحمل سمات يونانية في بعض جوانبها. لهذا فإن دراسة الفلسفة مهمة للغاية للتعرف على طريقة تفكير الشعوب الأوروبية، فنحن نكون معهم علاقات مختلفة في مجالات عدة، توجب علينا معرفة طريقة تفكيرهم والمؤثرات التاريخية التي تتحكم في سلوكهم وتعاطيهم مع بقية الشعوب.

قرأت مقالة صحفية في إحدى وسائل التواصل، يشجع كاتبها على تدريس الفلسفة في المدارس حتى يكتسب الطلاب معجزة (التفكير الناقد)، فتأخر تدريس الفلسفة في التعليم العام -كما يعتقد- يؤدي إلى نقص كبير في بنية المعرفة. ويعتقد كذلك بضرورة تعليم الفلسفة وتاريخها ورواد مدارسها، لأن فقدان هذه التجربة سيخلق فجوة من شأنها أن تعيق المسار الطبيعي للتعلم. فالفلسفة ستخرج الطلاب من دائرة التقليد والتسليم اللاواعي، وبالتالي فإن تدريسها سيخلق جيلًا مفكرًا ومتوازنًا من الناحية الفكرية، ويفتح لهم آفاقًا معرفية ويسهل عليهم فهم الفنون وتذوق الجمال واحترام الثقافات حسب كاتب المقال. وفي مقالة لكاتب آخر يعرف الفلسفة بقوله: «الفلسفة هي تاريخ قدرة الإنسان على توسيع المدارك والانفتاح والمرونة وصنع الأسئلة. فكانت الفلسفة الدواء الذي انتصر به العقل على الخوف والجهل».

ما كتب أعلاه يمثل رأيًا سائدًا في الأوساط الثقافية والأدبية بالعالم العربي، ويتبناه مفكرون كبار ومؤثرون في الساحة الفكرية العربية عمومًا. فهل وجهة النظر هذه يمكن أن تكون علمية وموضوعية؟

لنعترف بأن هناك جهلًا كبيرًا وواسع النطاق بين الكتاب والمثقفين العرب بطبيعة الفلسفة وتاريخها، وعلاقتها بالمعتقدات الدينية للشعوب اليونانية، ونتيجة لهذا الجهل فالمثقف العربي يتعامل معها كمشترك إنساني غير مرتبط بثقافة بعينها وتجربة إنسانية يمكن تعميمها على كل شعوب العالم باختلاف ثقافاتهم ومعتقداتهم الدينية. المثقف العربي حين يتبنى مثل هذه الصورة الوردية والحالمة للفلسفة التي يعتقد بأنها قادرة على صنع المعجزات في عقول طلاب التعليم العام، لا يتعامل مع التراث اليوناني -ممثلا في الفلسفة- بصورة علمية ومنهجية ولكنه يتعامل معها وكأنها علامة تجارية يجب الحفاظ عليها وإضفاء لمسة إيجابية حولها.

في كتاب «دروس في الفلسفة والفكر الإسلامي» لمحمد عابد الجابري وهو كما نعرف أحد أهم المفكرين في العالم العربي وأكثرهم تأثيرًا. تناول الجابري مسألة مهمة للغاية وهي تعريف الفلسفة، ومسألة أخرى لا تقل عنها أهمية وهي تدريس الفلسفة في التعليم بالمغرب. والجابري - كما يقول في كتابه - شارك في تأليف كتاب مدرسي في الفلسفة لطلاب البكالوريا المغربية. في الجزء المخصص لتعريف الفلسفة نلحظ بوضوح عجز الجابري عن تقديم تعريف واضح للفلسفة. نتج عن ذلك وقوع الجابري في حالة من الازدواجية في تعاطيه مع الفلسفة، فهو تارة ينظر لها كموروث يوناني وتارة أخرى يقدمها كمشترك إنساني. ونحن هنا نتحدث عن قامة فكرية لا أحد يشكك في خبرته الكبيرة في دراسة العقلين -العربي والغربي- فما بالك بمن هو أقل منه خبرة.

لنعترف بأن ماهية الفلسفة وعلاقتها بتاريخ الشعوب اليونانية ومعتقداتها الدينية ما زالت مجهولة لدى شريحة كبيرة من القراء العرب، وغياب التعريف الواضح الذي يحدد علاقتها بالثقافة اليونانية تسبب في ظهور جملة من التعريفات الغارقة في الغرابة عن الفلسفة، وكأنها دواء سحري أو كائن أسطوري قادر على نقل الناس من الظلمات إلى النور. وجعلت دور المثقف العربي يتحول من ناقد ومفسر للظواهر، إلى ما يشبه دور موظف في وكالة للدعاية والإعلان.