في عصر تسوده التقنيات وتحكمه التكنولوجيا المتطورة باتت البيانات الشخصية سلعة ثمينة يتم جمعها واستخدامها من قبل جهات عدة دون موافقة أصحاب هذه البيانات من الأفراد أو حتى علمهم، بما بات يشكل اليوم صراعا بين الخصوصية ومتطلبات الأمن، وتداخلا تُبذل محاولات رسمية عدة لضبطه، وفي هذا الإطار جاء (نظام حماية البيانات الشخصية) في السعودية ليكون أول نظام لحماية البيانات في المملكة، وهو يرمي إلى حماية خصوصية الأفراد من خلال تنظيم عملية جمع البيانات الشخصية ومعالجتها والإفصاح عنها والاحتفاظ بها، كما يقدم إطارًا مُفصَّلًا لمعايير معالجة البيانات، وحقوق أصحابها، والتزامات الجهات ذات العلاقة عند معالجة البيانات الشخصية، والسيادة على البيانات، والعقوبات في حال مخالفة النظام.

تطور وضبط

يشدد المستشار القانوني، الخبير التربوي إبراهيم بن عبدالله بن محمد مشني على قيمة وأهمية البيانات الشخصية التي تجمع من قبل جهات عدة (ليست رسمية) دون علم الأفراد، وذلك عبر مجموعة متنوعة من الأساليب، بما فيها استخدام ملفات تعريف الارتباط وأدوات التتبع الأخرى، والأجهزة الإلكترونية المحمولة مثل الهواتف والساعات الذكية التي تتضمن مجموعة متنوعة من أجهزة الاستشعار لجمع البيانات الشخصية مثل الموقع الجغرافي والحركة والنشاط، إضافة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الشخصية من مصادر متعددة، وإنشاء ملفات تعريف شخصية دقيقة يمكن استخدامها لتحديد تفضيلات المستخدمين أو التنبؤ بسلوكهم.

وقال «شهد العالم في السنوات الأخيرة انتشارًا كبيرًا لكاميرات المراقبة في كثير من الأماكن العامة مثل المراكز التجارية ووسائل النقل العامة والمطارات والمدارس والشوارع، وعلى الرغم من أن هدفها المعلن تعزيز الأمان ومراقبة الأنشطة العامة، إلا أن هناك مخاوف متزايدة بشأن تأثيرها على خصوصية الأفراد، كالمراقبة غير المشروعة، أو التجسس غير المبرر، والتخزين غير المألوف للبيانات؛ وهو ما زاد مخاوف الأفراد بشأن خصوصيتهم».

وأضاف «خصوصية الأفراد حق أساسي يجب حمايته واحترامه، ولذلك تطلب الأمر التفكير بإيجاد تشريعات وإجراءات صارمة لضمان عدم انتهاك هذا الحق، خصوصا أن هذه البيانات الشخصية التي يتم جمعها وتخزينها ومشاركتها عبر الإنترنت قد تشكل خطرًا على سلامة وأمن الأفراد إذا ما تم استغلالها بطرق غير قانونية أو غير أخلاقية، مثل التطفل أو التضليل أو التهديد والابتزاز».

وأكمل «تعمل الدول على فرض متطلبات صارمة على الجهات التي تقوم بجمع واستخدام البيانات الشخصية، ومنح الأفراد مزيدا من السيطرة على بياناتهم الشخصية، وإنشاء قواعد لحماية البيانات الشخصية من الوصول غير المصرح به، وتعزيز التوعية بأهمية الخصوصية».

وواصل «لا يقف الأمر عند الجهات الرسمية، بل على مؤسسات المجتمع ذات العلاقة العمل على عقد ندوات وورش ولقاءات حضورية وافتراضية لتوعية أفراد المجتمع بالمخاطر التي يمكن أن يتعرضوا لها عند استخدام أدوات التقنية الحديثة».

محاولات دؤوبة

يشدد مشني على أن كثيرًا من الدول بدأت تميل للتشدد في حماية خصوصية الأفراد، وقال «ساهمت بعض القوانين والأنظمة مثل GDPR في الاتحاد الأوروبي في حماية خصوصية البيانات من خلال فرض متطلبات صارمة على الشركات بشأن كيفية جمع واستخدام البيانات الشخصية، وتتضمن هذه المتطلبات الحصول على موافقة الأفراد قبل جمع بياناتهم، ومنحهم الحق في الوصول إلى بياناتهم وتعديلها أو حذفها».

وعلى النطاق المحلي، قال «يُعدّ نظام حماية البيانات الشخصية في المملكة نظامًا متميزًا يهدف إلى حماية خصوصية الأفراد من خلال تنظيم عملية جمع البيانات الشخصية ومعالجتها والإفصاح عنها والاحتفاظ بها، ويقدم إطارًا مُفصَّلًا لمعايير معالجة البيانات، وحقوق أصحابها، والتزامات الجهات ذات العلاقة عند معالجة البيانات الشخصية، والسيادة على البيانات، والعقوبات في حال مخالفة النظام».

ويضيف «كما أن هناك حاجة ماسة في ظل التطورات السريعة التي يشهدها العالم في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والتقنيات الحديثة إلى بناء مجتمع واعٍ متقدم تكنولوجيًا يحمي خصوصية البيانات وحقوق الأفراد، بما يضمن استخدام التكنولوجيا بشكل أخلاقي وآمن».

شبه منعدمة

يوضح الباحث في الدراسات الأمنية والإستراتيجية عبدالله غانم القحطاني، أن التسارع الإلكتروني جعل الخصوصية شبه منعدمة، ويقول «تستخدم اليوم كثير من وسائل التكنولوجيا بما فيها الكاميرات والمراقبة من خلال الإنترنت في رصد حركة الأفراد وأماكنهم ومواقعهم، وربما هناك ما هو أكثر خطورة وهو أن هناك برامج متوفرة على الأجهزة الموجودة اللوحية تقدم معلومات آنية عن الشخص لجهات قد تستخدم هذه المعلومات والبيانات أو تبيعها أو أو، وهذا يستلزم مزيدًا من التشريعات والقوانين لحماية حقوق الفرد وخصوصيتهم بما فيها تلك الوثائق التي تتعلق بعملهم وتاريخهم وصحتهم وعائلاتهم، على الرغم من صعوبة تطبيق تلك القوانين وشموليتها وقدرتها على مواكبة التسارع تكنولوجي الهائل جدًا».

ويضيف «تكمن صعوبة إحاطة القوانين بالتطور التكنولوجي بذاك التسارع المدهش للتقنيات والذي بات يضع المجتمعات على مستوى الأسر في مكان أو في مجال تهديد مباشر من جهات مختلفة قد تكون صديقة أو غير صديقة، وقد تكون ذات أهداف لرصد المجتمعات صحيًا وفكريًا وتعليميًا، وقد تكون أهدافها أشد خطورة حيث قد ترصد قابلية تلك المجتمعات للتفكك أو للتضاد، وبالتالي فنحن بأمس الحاجة إلى التفكير جديًا على مستوى الحكومات والمجتمعات والشركات والتقنيين وقادة العمل التكنولوجي والعمل الصناعي وأيضًا الأمني في تقنين يمنع استغلال البيانات ويضع عقوبات لردع من يحاول الإساءة عبرها للفرد والمجتمع».



الانكشاف على الآخر


تشير حاملة الدكتوراه في فلسفة التربية، المختصة في السياسات التربوية منى علي الحمود، إلى أن انعدام الخصوصية يعني باختصار الانكشاف على الآخر وذوبان الحدود حول الذات.

وتقول «يقدر جميع البشر أولوية حماية نطاقهم الشخصي، ويفعّلون الأسباب لوجود قدر من السيطرة على إمكانية وصول الآخرين إليهم، وما يمكن كشفه وما لا يمكن، ومع استخدام التكنولوجيا وتناميها الهائل أصبح موضوع الخصوصية مؤرقًا لكثيرين، على الرغم من وجود عدد من الإجراءات الضبطية التي تعد كفيلة بالحد على الأقل من هذا القلق تجاه الخصوصية إلا أنه لا يزال هناك مهدد يلوح في الأفق على مقدار السيطرة على الحدود الشخصية».

وتشرح أكثر «كي نكون أكثر دقة وموضوعية علينا أولًا أن نحدد مفهوم الخصوصية، فالخصوصية إجمالًا تعني رفض أن تكون معلوماتنا الخاصة متاحة في أي وقت ولأي شخص، وتعد التطورات المتلاحقة لأنظمة حماية البيانات والتجديدات المستمرة في قوانين الضبط مؤشرات ذات بعدين متناقضين، فالأول يشير إلى زيادة مقدار السيطرة على حماية الخصوصية، أما الآخر فهو تأكيد على محاولات ورغبات مستمرة ومتجددة لاقتحام هذه الحدود الشخصية؛ وعلى هذا يظل موضوع الخصوصية ومقدارها محل جدل واسع في ضوء الجمع بين قوة التكنولوجيا من جانب، وبين قلة إدراك المستخدم لكامل التفاصيل من جانب آخر».

تمييز الخصوصية

تركز الحمود، على التمييز ما بين الخصوصية الذاتية والخصوصية المعلوماتية التي قد تشمل المعلومات على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الرسمية والتي يسهل الوصول إليها وقت الحاجة بطريقة خارجة عن سيطرة الفرد ذاته كالعمل، والحالة الاجتماعية، ونحوها، وهي حق يقع تحت الطائلة الأخلاقية والمعيارية.

وتقول «لعل الإرهاصات الأولى لمحاولات انتهاك الخصوصية بدأت منذ الصور الفوتوغرافية التي بدأ بالتقاطها، ووصولا إلى نشرها للتشهير أو توصيلها لصاحبها لابتزازه ماديًا أو جسديًا أو معنويًا، حيث كان الموضوع بالغ الصعوبة في تحديد المصدر. ومع تطور وسائل الاتصال حل التصوير الهاتفي والنشر الإلكتروني محلها، ولكن لحسن الحظ وسوئه في الوقت ذاته هنا يمكن تحديد المصادر ويمكن اتخاذ الإجراءات الضبطية تجاهها، إلا أنها بالمقابل تفوق سابقتها بسرعة الانتشار وإمكانية إضافة التفاصيل والإشاعات عليها دون الدخول في دائرة العقوبة».

حديث عن التجريم

تواصل الحمود متناولة سؤالًا حول مدى تجريم عمل من يستخدم البيانات الشخصية، أو ينتهك الملكية الفكرية لشخص ما عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ وتجيب «بعض المختصين العاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات يرون أنه لم تعد اليوم هناك خصوصية في ظل العصر الرقمي ولا توجد هناك آلية ثابتة تمكننا من القدرة المطلقة على حماية الخصوصية، والحل هو أن نعتاد مثل هذا الأمر دون الوقوف عند تفاصيل قد يكون ليس من المجدي الوقوف عند حدها. بينما يرى آخرون أننا اليوم أصبحنا أكثر حاجة لحماية خصوصياتنا من أي وقت مضى.

في ضوء وجهات النظر المختلفة حول الخصوصية ماهيتها، وحدودها، وطبيعتها نؤكد أن موضوع الخصوصية هو قضية عالمية مهمة تخضع للأخذ والرد وفقا لقراءتها ضمن سياقات ثقافية متنوعة وأنسجة اجتماعية متعددة ومتلونة، ولكن يمكن أن ننظر إليها من باب الحماية من إيقاع الضرر والمخاطر على الفرد والمجتمعات من جهة، وعدم تساوي البيانات الشخصية من حيث قربها وبعدها من ذاتية الفرد والمجتمع، مع أهمية فهم دور السياق الثقافي في قراءة ماذا يصنف من الخصوصيات من عدمه، وأهمية دور الفرد في الوعي والإدراك للنظم والتشريعات التي تحكم الخصوصية ومحدداتها، التعايش بوسطية مع التطورات التكنولوجية في مجال المعلومات».