منذ بدء الخليقة إلى اليوم والبشر يخوضون معركة فكرية كبرى لمعرفة العالم ومعرفة أنفسهم، ومن ينظر بشكل شامل لقصة العلم والمعرفة يشعر بالفخر بقصة مسيرة المعرفة لهذا المخلوق الذي شرفه الله بالعقل هذه الأداة التي يريد بها أن يحسب قُطر الكون رغم ضآلة حجم الإنسان فكوكبنا نسبة للكون كما يصفه بعض الكزمولجيين يشابه حجم ذرة رمل نسبه لكوكب الأرض وعلى حبه الرمل هذه يقف هذا المخلوق الصغير جدا في حجمة الكبير بطموحه الفكري يريد أن يفك شفرة الكون ويحل ألغازه ويريد أن يكتشف ألغاز نفسه ويكتشف قصة الخلق وكيف بدأت، التاريخ الحقيقي والمشرف للبشر هو التاريخ المعرفي وليس التاريخ السياسي وصراع الإمبراطوريات والجيوش الذي يبدو قبحه ودونيته مقارنة بالملحمة الفكرية التي اشتركت فيها جميع الأمم منذ أن ضرب أول إنسان حجرين ليشعل النار ويتحكم فيها لتصبح إحدى أدواته يضيء بها الظلام ويطهو بها الطعام ثم ابتكر الإنسان حياكة الملابس وستر بها جسده وصنع أدوات الصيد ثم أتت الثورة الفكرية الكبرى في بلاد الرافدين والزراعة والكتابه مرورا بحضارة مصر التي ازدهرت فيها المعرفة والعلوم وتطورت الهندسة والرياضيات والفلسفة والطب وكثير من الاختراعات ظهرت في أرض الكنانة التي شكلت صفحات جميلة في قصة الحضارة البشرية،

فمثلا اختراع المصريين للسفن الشراعية شكل نقلة في مسيرة الإنسان الاستكشافية لا تقل أهمية عن صناعة المركبات الفضائية اليوم، التي هي بدورها تُعد إحدى كبرى مفاخر البشر ومن ثمار هذه القصة التي بدأت بضرب حجرين لإشعال النار قبل آلاف السنين، واستمرت مسيرة الحضارة من مصر إلى الهند والصين واليونان، لتصبح في ظل الحضارة الإسلامية معركة عالمية موحدة، كما يشهد بذلك كبار مؤرخي العلوم بأن المعرفة أصبحت عالمية وموحدة في ظل الحضارة الإسلامية ثم استمرت المسيرة الفكرية تحمل رايتها هذه المرة أوروبا وتتشارك فيها جميع الأمم فلا توجد أمة اليوم إلا وتسهم في شرف هذه المسيرة بدرجات متفاوتة

وقد يعتقد بعض دارسي تاريخ صراع النظريات الفكرية أن هذا الصراع مجرد أحد أنواع الصراع البشري ولكن الحقيقة والنتيجة أن كل صراع فكري هو مخاض ينتج عنه معرفة أدق وأرقى وما الصراعات بين النظريات والأفكار إلا صقل وارتقاء وتقدم لمسيرة الفكر، وأطراف هذه الصراعات الفكرية أخوة في خندق العلم يقودون معركة المعرفة ضد ألغاز هذا الكون الشاسع الغامض مطبقين علموا أم لم يعلموا الآية الكريمة «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله علىٰ كل شيء قدير». هذه الآية وغيرها عشرات إذا لم تكن مئات الآيات تأمر وتحث على البحث والسعي وخوض هذه الملحمة وليس كما يصورها البعض أنها تقدم أجوبة معلبة جاهزة، تغني الإنسان عن الاشتراك في هذه المسيرة.

واليوم تحتاج الأمة العربية إلى تسليط الضوء على هذه الملحمة ليحتل أبطالها موقعهم في العقل الجمعي العربي ويقتدى بهم، بحيث يعي كل فرد أنه جندي في هذه الملحمة، وتجب عليه المساهمة فيها بشكل إيجابي، فإذا لم يستطع فإنه من العار أن يعيش طوال عمره ويرحل إلى ربه دون أن يطلع على قصة هذه المسيرة على الأقل، ويعرف آخر وأهم النظريات ولو إلماما بسيطا يستطيع الفرد الحصول عليه بقضاء ساعات قليلة لمدة أيام معدودة من عمره يتعرف فيها على هذه الملحمة التي يعيش وسطها، تظله طائراتها وسفنها الفضائية وتحيط به موجاتها الكهرومغناطيسية من كل جانب.