لا يوجد لدينا أدنى شك بأهمية مشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري، ومدى تأثيره في الساحة الفكرية والثقافية في العالم العربي. ولهذا كانت وجهة نظر الجابري عن الفلسفة وتراثها ذات أهمية كبيرة في قراءة الواقع الثقافي العربي وعلاقته الملتبسة بثقافة الآخر، وبوجه خاص، علاقة المثقف العربي مع التراث اليوناني، ممثلا في تراث الفلسفة. ففي كتابه «دروس في الفلسفة والفكر الإسلامي» خصص الجابري مساحة كبيرة من الكتاب للتعريف بالفلسفة والتحولات التاريخية التي مرت بها عبر القرون الطويلة.

يملك الجابري قدرات بحثية عالية، ومنهجية صارمة استطاع من خلالها أن يخفي شيئًا من الازدواجية في تعاطيه مع الفلسفة، فهو لم يحدد موقفه من الفلسفة بشكل واضح ومباشر، هل هي مشترك إنساني محايد يمكن تعميمه على بقية الثقافات أم تراث يوناني مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمعتقدات اليونان الدينية؟

ومن الثغرات التي يمكن تبينها في تعريف الجابري للفلسفة أنه يصنف الفلسفة اليونانية باعتبارها مقابل للدين أو نشاط عقلاني متحرر من الأديان. يقول الجابري في كتابه: «نشأت الفلسفة كما نعرفها اليوم، أي باعتبارها تفكيرًا نظريًا منظمًا في الكون والإنسان، نشأت عند اليونان، فهم الذين أطلقوا على هذا النوع من التفكير اسم فلسفة. وفي هذا الصدد يحدثنا مؤرخو الفكر اليوناني أن أول من استعمل كلمة فيلسوف هو العالم الرياضي اليوناني المشهور فيثاغورس». يشير الجابري هنا إلى أن الفلسفة تراث يوناني، وأن أول من استعمل كلمة فيلسوف هو فيثاغورس. بمعنى أنها الفلسفة نشأت هكذا بدون مقدمات عند الشعوب اليونانية، وهذا كلام ينقصه كثير من الدقة.

في كتاب (تاريخ الفلسفة الغربية) يرد الإنجليزي برتراند رسل على الجابري قائلا: «ويقال أن فيثاغورس قد زار مصر -وليس ذلك بالمستحيل- وإنه ظفر هناك بكثير من حكمته».

لم تبزغ الفلسفة كالمعجزة من العدم عند اليونان كما يعتقد الجابري، فهي عبارة عن شذرات متفرقة من المعتقدات الدينية منتشرة في بلاد الرافدين ومصر القديمة وتأثرت بها الشعوب اليونانية بطبيعة الحال. خليط متناثر من المعتقدات والأساطير ينتمي لشعوب مختلفة انتقل وأخذ شكله المتحول باستمرار في اليونان وأصبح يسمى الفلسفة، فالمعتقد الديني ينتقل من مجتمع لآخر ويتحور ويتطور باستمرار، وكل مجتمع يفسره وفقا لثقافته ومزاجه العقلي، والفلسفة في اليونان هي مجمل الآراء والتأويلات المتعلقة بالمعتقدات الدينية التي تمثل رؤيتهم وتفسيرهم للكون والحياة.

يصف برتراند راسل الفيلسوف اليوناني فيثاغورس بقوله: «فهو مؤسس ديانة، أهم اتجاه فيها هو مذهب تناسخ الأرواح وجعل أكل الفول خطيئة وقد صبت ديانته في مذهب ديني». حديث راسل هنا -وهو الأقرب للصواب-يتعارض جملة وتفصيلا مع رأي الجابري الذي ينفي وجود أي علاقة للفلسفة اليونانية بالمعتقدات والأساطير الدينية. وهو بلا شك خطأ جسيم يقع فيه مفكر هام كالجابري.

يقول الجابري نافيا علاقة المعتقدات الدينية بالفلسفة اليونانية بقوله: «هكذا تدخل الفلسفة اليونانية خريفها ويظهر الدين المسيحي لتكتسب الفلسفة صبغة جديدة وتمتزج بروح جديدة أيضًا. أما الصبغة فهي الصبغة الدينية وأما الروح فهي الروح الشرقية».

يعتقد الجابري هنا بأن الفلسفة قبل ظهور الدين المسيحي لم تحمل أي دوافع دينية وأنها نشاط عقلاني متحرر للبحث عن الحقيقة. وهو بلا شك اعتقاد خاطئ جملة وتفصيلًا.

علاقة الفلسفة -قبل ميلاد المسيح- بالمعتقدات الدينية لا يمكن نفيها ومن اليسير جدًا الكشف عن الروابط التي تشد الفلاسفة بأساطير الشعوب ومعتقداتها، وهنا تكمن إشكالية قراءتنا المبتسرة للفلسفة، فنحن نقرأها خارج سياقاتها الثقافية والدينية، ولا نقرأها باعتبارها نشاطًا فكريًا لتأويل المعتقد الديني والدفاع عنه، يقول الجابري متحدثًا عن فلسفة القرون الوسطى: «وعلى العموم فإن الفلسفة الأوروبية في القرون الوسطى وتسمى الفلسفة المدرسية كانت من شغل جماعة من المدرسيين يستخدمونها تعزيزًا للعقائد الدينية». هنا نجد الجابري يضع فلسفة القرون الوسطى المسماة بالفلسفة المدرسية أو السكولائية ضمن سياقها الديني والثقافي وينفي عنها صفة الكونية أو العالمية ولكن بماذا تختلف الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة عن فلسفة القرون الوسطى؟ أليست كلها دفاع عن العقائد الدينية وتعزيز لها؟ يرد برتراند راسل قائلا: «كان امتزاج الرياضة باللاهوت الذي بدأ على يدي فيثاغورس، صفة تميزت بها الفلسفة الدينية في اليونان، وفي العصور الحديثة حتى كانط. وكانت الأورفية قبل فيثاغورس شبيهة بالديانات الأسيوية التي يكتنفها الخفاء. أما عند أفلاطون والقديس أوغسطين وتوما الأكويني وديكارت وسبينوزا وليبنتز، فترى امتزاجًا وثيقًا بين العقيدة الدينية والتدليل العقلي».

تعريف برتراند راسل للفلسفة وفهمه لتاريخها وتحولاتها الثقافية أقرب للدقة من تعريف الجابري.

طبعًا هذا لا يقلل من قيمة الجابري الفكرية ولكن أردنا من خلال هذا المقال تسليط الضوء على ظاهرة متفشية في المجتمع الثقافي العربي، وهي غياب التعريف الواضح للفلسفة الذي يضعها ضمن سياقاتها الدينية والثقافية كموروث يوناني لا يجب تعميمه على بقية الشعوب كمشترك إنساني محايد.