انتهى القرن العشرون، وكان كثير من العقلاء العرب - يعتقدون، بل يراهنون على أنه لن ينتهي إلا وقد انتهت من خلافات العرب وصراعاتهم الداخلية الحادة حول البديهيات المتعلقة بالحداثة، وأن بعض ما شهده ذلك القرن من تحولات ومتغيرات واختراعات كاف ليؤكد لكل من يمتلك منهم ولو بقية من عقل وفكر، أن سنة الله - في الحياة وفي البشر - تقضي بالتطور وتقاوم الجمود وتجعل كل جيل - بالضرورة - مختلفا عن سابقه في سلسلة لا تنتهي من الحداثات التي سرعان ما يدركها القدم، وتشكل في حينها نقلات نوعية مشروعة في تجربة الإنسان والحياة. كان ذلك الاعتقاد أمل العقلاء ومصدر يقينهم، إلا أن القرن العشرين طوى أشرعته وغادر الساحة قبل أن يحقق للعرب ما تمناه لهم عقلاؤهم؛ فقد ظهروا في بداية القرن الجديد وكأنهم على أبواب القرن الراحل بل أسوأ حالاً، لا سيما بعد أن تضاعف عدد البديهيات المختلف عليها، وزادت مجموعة العقد المثيرة للحساسيات، وأثبتت الحصيلة التَّعسة للعرب من القرن العشرين وحداثاته، أنهم كانوا يعيشون خارج الزمن بعيداً عن مؤثراته الفكرية والثقافية والاجتماعية، وأن الأشياء التي كانوا يختلفون عليها في نهاية القرن التاسع عشر هي بعينها ما يختلفون عليه عشية الخروج من القرن العشرين.

لن أشغل القارئ بإيراد قائمة البديهيات المختلف عليها - وهي طويلة - ولكنني سأكتفي باختيار بديهية واحدة منها، تلك المرتبطة بالشعر، وما تقتضيه سنة الله في الخلق، وما يمارسونه من أعمال مادية وفكرية، ومن خضوع هذا الفن لقانون التطور ومقاومة الجمود؛ فالإنسان محكوم بالحركة، وآدابه وفنونه محكومة بأن تتحرك معه أيضاً، وأن تكون كظله؛ إذا توقف توقف الظل، وإذا تحرك شاركه الظل حركته، ومن هنا، فلا وجود - في العالم كله – لشعر يشبه ما كان عليه قبل قرن أو قرنين من الزمن، وهذا ما يؤكده تاريخ الشعر العربي في عصور ازدهاره وحيوية شعرائه، وما يؤكده تاريخ الشعر في كل اللغات وعبر كل العصور.

إن روح العصر الذي يكتب فيه الشاعر قصيدته يفرض شيئاً ما في الشكل، وشيئاً ما في طريقة استعمال اللغة. والشاعر والعصر والظروف المحيطة والثقافة السائدة كلها تكتب القصيدة ولا تشكل قراءة الشعر القديم والنسج على منواله ثقافة شعرية معاصرة. صحيح أن الشعر القديم جزء من الموروث وجزء من الذاكرة اللغوية والفنية، لكن الإصرار على تقليده يجعل من الشاعر نسخة من الزمن القديم، وهو يكتبه من وحي قراءته لا من وحي موهبته ومعايشته لثقافة زمانه، وهذه من البديهيات التي لا يجوز الاختلاف حولها أو الجدل في شائها، وقد جمعتني الظروف بشعراء موهوبين كل بضاعتهم الثقافية من قراءة الشعر القديم، وقال لي أحدهم إنه - لم يقرأ أحمد شوقي، ولم يسمع بالشاعرين سليمان العيسى ومحمد مهدي الجواهري إلا بعد أن جاوز الخامسة والعشرين من عمره، ولذلك فإن قصائده المنشورة - على جودتها وجزالتها وإتقان أوزائها - تذكرنا بشعراء ما قبل الإسلام وعلى أحسن الأحوال بشعراء العصر الأموي أمثال «ذو الرمة» ومن عاصره أو جاء بعده من المبدعين الموهوبين الذين يجهدون في صياغة الصورة وتشكيل اللغة على نحو غير مسبوق.

وشاعر كهذا، لا بد أن يكون متشبعاً بفكرة مغلقة مؤداها أن الشعر هو هذا الذي ألفَهُ وارتسم في ذاكرته، وأن الخروج على عموده الموروث جريمة لا تغتفر، والأمر يختلف كثيراً مع شعراء آخرين ارتبطوا بعصرهم وعاشوا ثقافته المتنوعة وارتبطوا بتراثهم ارتباط من يريد أن يحميه ويضيف إليه، لا ارتباط من يسعى إلى تكراره وتقليده وتشويه معالمه البارزة والمستأثرة بالعواطف لفرادتها وقدرتها على تمثل صورة زمانها. والمشكلة أننا قوم متهمون بالولاء للماضي، وهي تهمة باطلة لا أساس لها من الصحة ولا أثر لها في الواقع، فالماضي لم يكن بهذا القدر من السوء ولم يكن الاختلاف بين الشعراء أو النقاد والقراء على هذه الدرجة من الفوضى وغياب الاحترام، على الرغم من اتساع رقعة التعليم وانتشار وسائل التوصيل والاتصال والإكثار من الحديث عن أهمية الحوار والرغبة في التحديث.

وكم تمنيت في تلك الليلة الظلماء التي لم يطلع فيها قمر الشعر، وغاب خجلا من بعض أجزاء الحوار المعاكس أو المشاكس الذي خصصته قناة «الجزيرة» للشعر، كم تمنيت لو أن النوم قد طوى الأجفان والآذان فلا يرى الناس ولا يسمعون تلك الأصوات الغريبة والمناقضة لطبيعة الحياة والقادمة من وراء القرون والتي تتحدث عن الشعر كما لو كان نصباً تذكاريا نحتته أيدي الأجداد في لحظة فذة من الدهر ثم ألزمتنا الرقص حوله، واستعراض الفحولة اللغوية عند قدميه من قبل الأجيال المتعاقبة، والاقتناع بأن الشعر الموزون المقفى هو ما يثبت ذكورية العرب وما سواه من أشكال إبداعات أدبية يثبت العكس.

إن الإغراق في الحوار حول البديهيات وعدم الانتقال من موقف اجترار التنظير والتنظير المضاد إلى الإبداع ذاته. والبدء في تقييم هذا الإبداع ومدى اقترابه وابتعاده من روح عصره ومن أشواق معاصريه، ما هو إلا التعبير الصارخ عن الإفلاس، وضرب من التحريض على سجن الطاقات الإبداعية العربية في «الفحولة» الجامدة، ورفض لكل المحاولات الجادة التي تمت خلال قرن ويزيد، فضلا عن كونها محاولة آثمة لا تكاد كل الحداثات الجادة والجريئة التي شهدها تاريخ الشعر العربي ابتداء من المبيتات والمخمسات والرباعيات والبند والموشحات والمحاولات التي ارتقت بالنثر إلى أفق الشعر، وكادت في وقت مبكر جدا تختصر الزمن لتصل إلى الرؤية الشعرية التي تبناها وكشف عن مكوناتها الجوهرية في الغرب الحديث الشعراء الرومانتيكيون والسرياليون الذين كانوا وما يزالون حديث العالم بما أضافوه إلى الشعرية من مساحات واسعة في فضاءات الحلم وألق المخيلة.

إن الأشكال الأدبية - في فترات النهوض والصحة العقلية والوجدانية للشعوب - لا تعرف الثبات ولا تتوقف عن ممارسة نوع من الولادة الجديدة خلال وقت يطول أو يقصر، وهي - أي الأشكال الأدبية - تغاير نفسها وتتجاوز نسيجها المألوف والسائد إلى ما ليس سائداً ولا مألوفا والمهم أن تكون في مغايرتها وفي تجاوزها مكتوبة بلغة الأمة محافظة على قواعد هذه اللغة، وهذا ما أثبتته الولادات المتتابعة للقصيدة العربية، فلا الموشح - في جانبه المشرق - تخلّى عن اللغة العربية وقواعدها، ولا قصيدة التفعيلة خرجت عن ذلك السياق اللغوي المتين، كما أن قصيدة النثر وهي أحدث الولادات الشعرية وأجدها لا تستطيع التخلي عن النسق اللغوي للعربية ولقواعدها وتراكيبها.

ولا أنكر كما ليس في وسع أي ناقد أو قارئ مهتم بالشعر أن ينكر أن هناك آلاف النصوص المكتوبة في إطار هذا الشكل أو ذاك ولا علاقة لها بالشعر لا من قريب ولا من بعيد، وأن هذه النصوص الكثيرة التافهة تزاحم نصوصاً قليلة وتكاد تطردها من ساحة الإبداع، شأن العملة الرديئة التي نجحت في طرد العملة الجيدة، إلا أن ذلك لا يدفعنا إلى إنكار التجديد وإلى رفض الحداثة الشعرية وإدانتها، في حين أنها جزء لا يتجزأ من متغيرات الواقع وتحولاته.

الأشياء التي كانوا يختلفون عليها في نهاية القرن التاسع عشر هي بعينها ما يختلفون عليه عشية الخروج من القرن العشرين.

2000*

* شاعر وأكاديمي يمني «1937 - 2022»