من المؤكد للعارف بتفاصيل العمل الروائي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» أن مهمة إميل حبيبي لا بد أنها كانت مهمة صعبة، لأن هدفه فيما يبدو هو كتابة رواية عن واقع الشعب الفلسطيني المعاصر: انشطار الأرض والشعب في النكبة الأولى، واجتماع الشمل في فلسطين واحدة محتلة من النهر إلى البحر، وردود الفعل الشعبية ما بين نكوص وكمون وصمود ومقاومة مسلحة.

إذن فالغاية ملحمة، ولكن ما العمل والعين الثاقبة للكاتب الواقعي يقظة لا تغفل عن سلبيات الناس، تستنفر في صاحبها الرغبة في النقد اللاذع والتعليم والتقويم؟ كيف الجمع بين شعر النضال الشعبي وزخمه الملحمي والبطولة المأساوية للأفراد والجماعات ونثر التفاصيل اليومية للواقع المعاش؟ كيف المزج بين رقة العاشق في حضرة المعشوق وصخب اللسان السليط للكاتب الهزلي الساخر؟.

لقد أتاح الشكل الذي استولده إميل حبيبي صهر هذه المتناقضات التي بدونها يفقد الواقع - الذي يراه الكاتب بمنظوره وحساسيته وتكوينه الثقافي الخاص - تركيبته وثراءه. وحين إقول إن كاتب الوقائع الغريبة قد استولد شكلا، فأنا أقصد ذلك تحديدا، إذ إنه قد أخذ البناء الوقائعي لحكايات «ألف ليلة وليلة»، والمقامات العربية، والصوت الدافئ للراوي الشعبي الذي يتوجه بالحديث إلى آخر، يحكي ويعلق ويضمنه من الحكم والأمثال وأبيات الشعر، وهذا أسلوب شائع في أدب التراث، بما في ذلك كتب التاريخ، ثم أخضعها لمبدأ فني واحد يسري في الرواية من السطر الأول فيها حتى السطر الأخير. هذا المبدأ الفني هو المفارقة التي تحكم مادة الرواية وأسلوبها، وتكتسب المفارقة التي تقوم على كشف العلاقة بين ضدين إو إبراز صفات الشيء بمضاهاته بضده فعالية خاصة بين يدي أديب يتبنى المادية العلمية التي ترى في العلاقة والصراع بين الأضداد قانونا يحكم المادة ومسيرة المجتمع والتاريخ. هنا تصبح المفارقة أداة مثلى لتنفيذ مشروع الكاتب المتجذر في الموقف الجدلي، والطامح إلى الجمع بين المأساة والملهاة وملحمة النضال الشعبي ومهزلة النكوص الفردي، فهل انتقل إلى تفصيل هذا الكلام؟.

يشبه المتشائل بطل المقامة، وبطل رواية المتشردين في صفتين أساسيتين، هما: لا بطولته، ودوره المشاهد أنه إنسان عادي يتسم بقدر كبير من الحرص الجبان، يدفع به إلى التزام الصمت ساعة تحتدم الأمور. وتتبدى هاتان الصفتان فيه بشكل دال في الواقعة السادسة من الكتاب الأول - كيف شارك سعيد في حرب الاستقلال للمرة الأولى - والعنوان ساخر طبعا، لأن سعيد يكتفي بدور المتفرج المنكمش. أنه وهو المشاهد يمثل تجسيدا هزليا للخوف والجبن، والذي يشاهده هو المواجهة بين الحاكم العسكري وابنة البروة المطرودة منها. ويتحول المشهد، الذي بدا واقعيا، إلى تكثيف شعري يصدر الرمز بالإيحاءات الدالة. تتجه المرأة تحت تهديد الحاكم العسكري إلى الشرق وابنها في يدها. «كلما ابتعدت وولدها عن مكاننا، الحاكم على الأرض، وأنا في الجيب ازداد طولا، حتى اختلطا بظليهما في الشمس الغاربة، فصارا أطول من سهل عكا. وظل الحاكم واقفا ينتظر اختفاءهما، وظللت أنا قاعدا انكمش، حتى تساءل مذهولا: متى يغيبان؟!».

هكذا يتحول وجود المرأة وطفلها إلى معادل رمزي لديمومة الشعب الفلسطيني في المكان وفي وعي الغزاة. وتكسب الإشارة لمحمود درويش، وتضمين أشعاره بُعدا إضافيا للنص. هذا البُعد التاريخي لما سوف يحدث في المستقبل حين يصبح الطفل الصغير شاعرا يغني الوطن. واستطالة قامة الطفل وأمه تجد صورة توازيها وتعارضها في اكتشاف سعيد أن قامته أطول من قامة الحاكم العسكري حتى بدون قوائم الحمار، وتعبر الصورتان عن حقيقة واحدة ألا وهي استطالة قامة أصحاب البلاد عن غزاتهم، على الرغم من الطبيعة الهزلية لصورة المتشائل والطبيعة الشعرية لصورة المرأة وابنها. وتوضح هذه الصفة المشتركة الكامنة في المتشائل والظاهرة في القروية وطفلها أن المشاهد والمشهد على غير ما يبدو ليسا منفصلين تماما.

وتلتقي في مكان لاحق في الرواية بمشهد مشابه، وإن اختلفت تفاصيله، حين يجلس المتشائل مكتوف اليدين، وشرطة الدولة تهاجم ابنه ولاء، وزوجته الطنطورية، وقد أعلنا هويتيهما.

يقدم هذا المشهد، الذي يحمل السمات النموذجية للمشهد لدى إميل حبيبي في هذه الرواية، عدة مفارقات، منها المفارقة بين الموقف المتخاذل للمتشائل وصورته الهزلية وصعود المرأة الصامت ووجودها الشعري، وما يكمن بين الصورتين من تناقض وتشابه، ومنها أيضا المفارقة بين ظاهر العلاقة بين ابنة البروة وطفلها من ناحية، والحاكم العسكري من ناحية أخرى، والحقيقة الباطنة لهذه العلاقة، فالحاكم العسكري الغازي المنتصر صاحب السطوة والسلطة في حقيقة الأمر خائف من المرأة وطفلها.

ويستوقف قارئ الوقائع الغربية هذا العدد الكبير من المفارقات الساخرة في المواقف والصياغات اللفظية. يبدو هذا واضحا للوهلة الأولى، ولكن قراءة متفحصة للنص تكشف أن هذه المفارقات على اختلاف شكلها تنبع من مفارقة كبيرة هي أساس معنى الرواية ومبناها، وتكمن هذه المفارقة الأساسية في الحياة المزدوجة لسعيد المتشائل داخل الدياميس وخارجها.

إن خوف سعيد من إعلان هويته الحقيقية يدفع به إلى حياة مختنقة داخل الدياميس (تحت الأرض). أما حياته خارج الدياميس فليست سوى حياته كسعيد المستكين للاحتلال والقابل به. إذن فسعيد سعيدان، يعيش الأول داخل الدياميس، ويرتبط بالسر المدفون (ونلاحظ ما بين الصورتين من علاقة)، وبباقية ويعاد، ويجاهر الثاني بإعلان ولائه المفرط للدولة. ولأن سعيد سعيدان، فإن ابنه الذي أراد أن يرضي الدولة بتسميته يتحول إلى ولاء للوجود الفلسطيني.

وترتبط حياة سعيد المتشائل المزدوجة تلك تاريخيا بوجود دولة إسرائيل واغترابه فيها كفلسطينه، واضطراره لإخفاء هويته الفعلية كوسيلة للبقاء والاستمرار. ويعبر إميل حبيبي عن هذا الوجود المزدوج والاغتراب الناشئ عنه بمختلف الصور والوقائع، فسعيد مسجون في جسد ليس له. لقد تحول إلى هرة تموء «هكذا حالي عشرين عاما أهر وأموء، حتى أصبحت هذه الحلول يقينا في خاطري، فإذا رأيت هرة توسوست: لعلها والدتي رحمها الله، فأهش لها وأبش، وكنا نتماوا أحيانا..». وحين ترفع القناع الساخر، نرى الوجه المأساوي لاغتراب سعيد في دولة تنفي تاريخه، ولا تقبله ‘لا متنكرا لهويته الحقيقية.

وينتج عن هذا الوجود المزدوج لسعيد عشرات المواقف الساخرة في ظاهرها، التي تحمل في الوقت نفسه دلالات عميقة مثيرة للألم في الغالب، فسعيد حين يسمع راديو إسرائيل يطلب من العرب المهزومين رفع علم الاستسلام الأبيض في حرب 1967، يعتقد أن الرسالة موجهة إليه، فيرفع ملاءة سريره على يد مكنسة فوق بيته. ولكن بما أن سعيد من مواطني الدولة، فإنه يحاسب على ما فعل. ويكشف هذا الموقف الهزلي في ظاهره حقيقة شعور سعيد بأنه هو المهزوم بهزيمة العرب، وإن اتخذ شعوره هذا شكل المداراة بتأكيد ولائه المفرط للدولة وتعليماتها، ويقلب المشهد ككل مواجع الهزيمة في نفوسنا على طريقة «شر البلية..».

1981*

* روائية وأستاذة جامعية مصرية «1946 - 2014»