استطاع الشعر العربي بالإضافة إلى ما حققه من تجديد في الشكل أن يعالج كثيرًا من القضايا الاجتماعية والسياسية التي شهدتها فترة السبعين سنة الماضية. تغنى الشعراء العرب بالحرية ونددوا بالاستعمار ودعوا إلى الاستقلال وتحرقوا إلى الوحدة وكتبوا عن مأساة فلسطين وعبروا عن تطلع الأمة العربية إلى غد من الرفاهية والعدالة الاجتماعية.

على أننا بعد أن قررنا هذه الحقيقة ينبغي أن نبادر فنقرر حقيقتين ثانيتين بها. أولاهما أن الشعر العربي الذي تعرض للمواضيع السياسية والاجتماعية لم يرق في مستواه الفني بحيث يتناسب مع القضايا الخطيرة التي عالجها. لقد غلبت على معظم قصائد الشعر السياسي التقليدي صفات التقريرية والخطابة والتهويل، كما غلب على معظم قصائد الشعر السياسي الحديث طابع الرمزية المفرطة وطابع الكليشيهات المتكررة والمستمدة في معظمها من الأساطير اليونانية.

إن الشعراء الذين استطاعوا أن يعبروا تعبيرًا فنيًا جميلًا عن قضايا المجتمع السياسية أقل من القلة وأن القصائد الخالدة التي أنتجوها تكاد تعد على أصابع اليدين ولعل أكبر دليل على ما أقول: هو أننا إذا تساءلنا عن الأعمال الشعرية الممتازة التي تحدثت عن ثورة الجزائر لم نجد ما يشفي الغليل. وإذا تساءلنا عن أثر مأساة فلسطين في الشعر لم نعثر إلا على شعر متوسط لا يبلغ مستوى الروعة والخلود إلا في قصائد معدودة. إن هذه ظاهرة مؤلمة وهي ظاهرة محيرة أترك لغيري ممن هو أقدر مني على التحليل، أن يفسرها.

والحقيقة الثانية هي أن الشعر العربي، رغم معالجته المتكررة لقضايا السياسة والاجتماع لم يستطع أن يكون عاملًا مؤثرًا في مسار المجتمع العربي المعاصر. صحيح أن بعض الأشعار الوطنية تقرأ فتثير الحماس الوقتي وتبقى على الشفاة فترة من الزمن. ولكن لا أجد أي دليل يقنعني بأن هذه القصائد كانت رافدًا أساسيًا من روافد العمل السياسي العربي. وأستطيع القول إننا إذا استعرضنا المؤثرات الفعالة في حياة المجتمع خلال السبعين سنة الماضية لم نستطع رغم ما نكنه للشعر من محبة، أن نعتبره أحد هذه المؤثرات، ولعل أحدًا لا يجادل أن كتاب المقالة السياسية والصحفيين والعاملين في أجهزة الإعلام الأخرى لعبوا دورًا يفوق بكثير دور الشعراء في رسم العربي خارطة العقل العربي.

وقبل أن يتبادر إلى ذهن أحد أنني بمواجهة هذه الحقيقة المؤلمة أوجه نقدًا من أي نوع للشعر أسارع إلى القول إن اللوم لا يقع على الشعراء بقدر ما يقع على عدد كبير من الظروف التي تضافرت لتحصر الشعر في دائرة ضيقة يصعب عليه وهو سجينها أن يمارس دورًا يذكر في التأثير في المجتمع. إن مجتمعنا العربي المعاصر لا يكاد يقرأ الشعر يندر أن نرى الشاعر الذي يعيد طبع ديوانه أو يطبع منه أكثر من بضعة آلاف نسخة بل إننا نستطيع القول إن الشاعر الذي يستطيع استرداد نفقات الطبع يعتبر محظوظًا. لو سرت في أي بلد عربي وسألت رجل الشارع عن اسم أشهر الساسة أو نجوم السينما أو المطربين أو لاعبي كرة القدم في بلده أو في بلد عربي لما تردد في الإجابة، ولو سألته عن أشهر الشعراء لما لقيت منه سوى الوجوم المشوب باستغراب.

إن الشاعر العربي الوحيد الذي استطاع أن يخرج إلى دائرة الضوء فينافس لاعبي الكرة ونجوم الشاشة في الشهرة هو نزار قباني وهو في الواقع ظاهرة فردية واستثناء يؤكد القاعدة. نزار قباني رغم الشهرة الواسعة لم يستطع أن يحقق ما حققه سلف له حين كتب عن المليحة في الخمار الأسود فتخاطفت النساء الخمر السوداء وبيعت الآلاف منها وأنقذ صديق الشاعر من إفلاس مؤكد.

والموضوعية تقتضي منا أن نشير إلى أن الشعر العالمي ليس أسعد حظًا من الشعر العربي في المجتمعات الغربية، مثلًا يعرض فيلم فيراه مئات الملايين، وتنشر قصة فيقرأها عشرات الملايين وترسم لوحة فتطبع منها مئات الآلاف من النسخ ويطبع ديوان شاعر مشهور فلا يكون حظه أسعد بكثير من حظ ديوان عربي.

لعلنا بعد هذه الجولة نستطيع أن نوجه السؤال (هل للشعر مكان في القرن العشرين؟) فنقول نعم إن للشعر مكانًا في القرن العشرين. يتيح للشاعر التعبير عن تجاربه ويتيح للقارئ أن ينفعل ويتجاوب مع الشاعر، غير أن الشعر لا يستطيع أن يقوم بدور سياسي اجتماعي يذكر. ومع ذلك فإن أحدًا لا يجادل في أن من حق الشعر أن يحاول ويكرر المحاولة ليفرض نفسه على المجتمع وأن من حقه أن يحلم دائمًا بغد يصل فيه إلى ملايين البشر فيؤثر في حياة ملايين البشر.

حتى نصل إلى ذلك اليوم أقول للشاعر العربي: إن كتابتك للشعر في حد ذاتها لا تعفيك من واجبك الأساسي كمواطن عربي في أن تحاول تطوير مجتمعك موقعك أيا كان موقعك. وأقول لقارئ الشعر العربي: إن إعجابك بالشعر الحماسي الوطني لا يعفيك من التزامك بأن تقدم لوطنك التضحية التي تتجاوز بكثير لحظة عابرة من الحماس المؤقت.

1978*

* كاتب وشاعر وسياسي سعودي «1940-2010».