التسامح قيمة إنسانية نبيلة لا يمتلكها إلا من امتلأت قلوبهم بالقدرة على التسامي فوق ذواتهم الضيقة واعتادوا قبول الآخر والتعايش مع المجتمع الإنساني. ولتعزيز هذه المبادئ فإن الأمر يتطلب التصدي لظواهر الكراهية والتهميش والإقصاء وغيره من المشاعر والمفاهيم الضيقة التي كانت السبب الرئيسي في انتشار ظواهر التطرف والعنف، التي أدت بدورها لاستشراء وباء الإرهاب الذي لم تكد تسلم دولة في العالم من شروره، والذي أزهقت بسببه أرواح الأبرياء.

لذلك فإن التسامح هو مفهوم أخلاقي اجتماعي، دعت إليه كافة الأديان السماوية، ونادت به جميع الثقافات الإنسانية، لما له من أهمية كبرى في تحقيق وحدة وتماسك المجتمعات، والقضاء على الخلافات بين الأفراد والجماعات، فهو يشير إلى احترام ثقافات وعقائد وقيم الآخرين، بما يشكّل ركيزة أساسية للعدل والحريات الإنسانية العامة، حيث إن غيابه يعني انتشار النزاعات وحالة عدم الاستقرار.

هذا الربط الحقيقي بين الإرهاب وغياب التسامح أثبتته الأمم المتحدة عام 1996 بتخصيصها يوم السادس عشر من نوفمبر من كل عام يوما عالميا للتسامح، تحتفي فيه الأمم والشعوب والمجتمعات بترسيخ قيم وثقافات الاحترام المتبادل والتآخي، ونبذ كل مظاهر التعصب والكراهية والتمييز. لذلك باتت هذه الذكرى السنوية مناسبة للتذكير بحتمية احترام الآخر، وعدم محاولة إرغامه على قبول ما لا يريد، وفهم المخاطر التي يشكلها التعصب والتهميش ومحاولات الإقصاء.


ويشير كثير من الخبراء والمختصين إلى أن ظاهرة الإرهاب لم تأت من فراغ، بل كانت نتاجا لتراكمات على فترات طويلة من التاريخ، غابت فيها ثقافة التسامح، وتوارت قيم العفو، وبرزت فيها سوءات التعصب والتهميش والمساعي الحثيثة لاجتثاث المخالف وإرغامه على اعتناق ما لا يريده ولا يؤمن به من قناعات وأديان ومبادئ.

هذه التصرفات التي انتهجها بعض الدول والمجتمعات التي كانت في مراكز قوة اقتصادية وسياسية، ومحاولاتهم لفرض نمط ثقافي وحياتي معين على بقية دول العالم وشعوبها كانت سببا في ظهور تطرف مضاد، أسهمت في تأجيجه بعض القراءات الخاطئة والتفسيرات المتشددة لمبادئ الأديان، حيث لم يرتبط التطرف بدين معين أو ثقافة محددة، بل إن الجميع شاركوا في تغذيته وانتشاره، لذلك تشارك الجميع أيضا في دفع الثمن الباهظ الناتج عنه.

ولأن بلادنا جزء من العالم تتأثر بما يدور فيه فقد ابتليت في مرحلة من تاريخها بهذا الوباء وشهدت العديد من أعمال العنف، لكن الوصفة التي اتبعتها المملكة للقضاء على آفة الإرهاب امتازت بشموليتها وعمقها، لذلك استطاعت في سنوات قلائل القضاء على جحور التطرف وأوكار الغلو، حيث لم تقتصر نظرتها وطريقة علاجها على الجانب الأمني فقط، بل ركزت على الجوانب الثقافية والفكرية، إيمانا من القيادة الرشيدة بأن الفكر الضال لا يقارع إلا بالفكر المستنير، وأن الأكاذيب تدحضها الحقائق، والنور يبدد جيوش الظلام.

ركزت سياسة المعالجة السعودية كذلك على تشجيع قيم التسامح، وإفشاء روح إيجابية عبر العديد من الجهات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، إضافة إلى تعزيز ثقافة حقوق الإنسان وإشاعتها بين كافة فئات المجتمع، والترويج لقيم الإسلام الحقيقية التي تحفظ للبشر جميعا حرية اعتناق ما يؤمنون به من أفكار وأديان، فالإسلام أعلى شأن التسامح ودعا إليه في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ونهى عن التطرف والغلو والمبالغة في ردود الأفعال.

نعم .. عملت رؤية المملكة 2030 على جعل هذا الفكر ثقافة يومية ينتهجها المجتمع السعودي بكل أطيافه، بل انعكست تلك الجهود في عدد من الإجراءات التشريعية والقانونية مما انعكس إيجابًا على ضمان الأمن والاستقرار الذي تنعم به بلادنا، بوصفها وجهة جديدة مفضلة للعيش للجميع من مختلف بلدان العالم، وهذا ما أشارت إليه التقارير الدولية في هذا الشأن.

من هنا انطلقت المملكة لتعزيز قيم التعايش والتسامح واحترام الآخر، فكان رأس الرمح في هذا التحرك هو تغليب ثقافة التسامح، باعتباره المدخل الأساسي للتصدي لمحاولات الإقصاء، فاختلاف الناس في أفكارهم وثقافاتهم وطرق تفكيرهم لا ينبغي أن يكون سببا في حدوث التوتر، بل إن الاختلاف هو قيمة عظيمة، والإقرار بذلك يمثل أبرز وأول حقوق الإنسان التي يجب صيانتها والحفاظ عليها.

كما أولت المملكة عناية كبرى للتشجيع على التعايش وقبول الآخر واستيعابه في المجتمع، وعدم محاولة إقصائه أو إرغامه على ما لا يريده أو يرتضيه، وأكدت منذ توحيدها أن ميزان التفاضل الوحيد بين مواطنيها هو الالتزام بالقوانين والأنظمة والسعي لخدمة الوطن، دون أي اعتبارات مناطقية أو مذهبية.

ذلك الفهم المتقدم والإدراك العميق للقضية مثّل علامة فارقة قادت لإنجاح جهود استئصال آفة التطرف والعنف في وقت قياسي، حيث استطاعت المملكة القضاء على مكامن التطرف بضربات استباقية ناجعة، أعادت طيور الظلام لأوكارها الموحشة وعزّزت أجواء التسامح والإلفة والإخاء التي عرفت بها المملكة منذ توحيدها.

ونحن في هذ العهد الزاهر الذي نعيشه تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - فإن تعزيز نهج التسامح بات أحد الثوابت الرئيسة، حيث تتجه الدولة نحو الانفتاح الإيجابي على الآخر، وتعزيز مبادئ حقوق الإنسان، ودعم مناخ التسامح والتعايش. وقد أبدى المجتمع السعودي رغبة كبيرة في استمرار هذا النهج وترسيخه.

هذا هو النهج الذي يشبه بلادنا التي تخطو في كل يوم خطوات واسعة نحو مراقي الرفعة والنهضة والعلو، لأن قيادتها الرشيدة تسترشد بقيم الإسلام الحقيقية وتأبى الانسياق وراء دعوات الغلو، تستصحب بإحدى يديها قيمها الأصيلة وتمسك بالأخرى عناصر التقدم والمعاصرة، وهو ما سيقودها حتما نحو غاياتها المرسومة.