لا أظن أن أحدًا اليوم يصدق، ولو لحظة واحدة، الشعارات التي يرفعها الغرب حول حقوق الإنسان والأقليات المضطهدة في العالم؛ فقد أصبحت اليوم مجرد نكتة كبيرة، إذ لم تعد موضوع خطاب الغرب الحديث، بعد أن سقطت تلك الشعارات في غزة.

الغرب الذي مد ذراعيه للكيان الإسرائيلي العنصري، وأقام معه أوثق الروابط السياسية والعسكرية، وفي الوقت نفسه يظهر مواقف متحاملة تجاه الفلسطينيين، صار ينظر للقضية الفلسطينية من زاوية حقوق الإنسان الإسرائيلي، في تناقض مريع ما بين الأخلاق والسياسة، والنظر بالمعايير المزدوجة.

يعتقد الغرب أن وجود الإنسان الفلسطيني على أرض فلسطين، مصدر قلق دائم لإسرائيل ويهدد أمنها، بهذه الذهنية الشاذة والتفكير المريب، يجابه الغرب الوجود الفلسطيني غير آبه لأبسط المبادئ والحقوق الإنسانية، فهذا الحيف السياسي الظالم والسخيف هو الذي يولد العنف، وربما الانفجار السياسي والعسكري الذي لا يعرف له نهاية واضحة.

فإفراغ القضية الفلسطينية من مضامينها، وتلوينها بأساليب العصر السياسي الماكرة، يعكس أزمة مفزعة، وخطورة الدور الذي يلعبه الغرب في محاولة لنقض نسيج القضية الفلسطينية، تحت واجهات ومعطيات مبهمة، ومنحنيات هامشية ولافتات غير محددة، وهذا الموقف لا يتطلب من الإنسان الفلسطيني أن يكون واضحًا فحسب بل عليه أن يكون واعيًا وعارفًا بما يدور حوله.

لقد كشفت غزة العقليات التآمرية القادمة من الغرب، فإسرائيل ومعها الغرب لا ينظران للقضية الفلسطينية بمنظار العدل والحق، أو على الأقل بالمنظار الإنساني، وإنما ينظران لها كقضية حياة أو موت، فهما يعتقدان أن أي تبدل يطرأ على وضع القضية الفلسطينية، من شأنه أن يهدد الوجود الإسرائيلي، وكل ما تسعى إليه إسرائيل أن يبقى الفلسطيني تحت قبضتها، وطوع إرادتها، في محاولة لكبح طموحه، وحرمانه من أرضه وحقوقه، حتى لو اقتضى الأمر إزهاق الأرواح البريئة، وما الحرب على غزة إلا مظهر من مظاهر روح الانتقام وآثار للحقد الكامن في النفوس والضغائن المكبوتة.

واليوم حان الوقت لأن نضع حدًا فاصلا بين ما هو من القضية الفلسطينية وبين ما هو عليها أو ضدها، وبالذات بعد أن صعد الغرب معاركه السياسية والإعلامية والعسكرية ضد هذه القضية، وهذا يضعنا أمام حقيقة مدهشة، وهي أن ثقافة الغرب لا تقوم على واقع إنساني، وإنما على أهواء سياسية، وانهيار المعايير الصحيحة ولذلك فإن المجتمع العربي الإسلامي يبدي شعورًا بالتشاؤم وخيبة الأمل من تصرف الغرب حيال القضية الفلسطينية.

ومن واقع هذا المشهد المريع في غزة أصبح العالم اليوم -كما نراه- يموج بكثير من الأحداث التي تقوم على الغلبة وتدمير الآخر، كما يحدث الآن في فلسطين.

ولذلك فالعالم اليوم أحوج ما يكون لأن يتمثل روح الحوار الإنساني لأن الحوار هو البديل العاقل للصراع، ولأن الحوار هو الوسيلة المثلى لتحديد الأهداف الإنسانية في هذا العالم المتشابك المصالح، فالإيمان الواعي بالحوار كوسيلة ليس فقط لتوضيح وجهات النظر، وإنما كذلك للسعي الإيجابي لتأكيد الذات والعمل على بلورة الخيار الحضاري والإنساني.

فالعلاقات الدولية لم تعد مسألة خيار بقدر ما أنها قضية بقاء، فالأمم تلتقي ليس على مصالحها الوطنية فحسب، وإنما تلتقي كذلك على هموم البشرية بأسرها، فلم يعد العالم في هذا الوقت سهل الانعزال في أقاليم وأقطار، بل صار شبكة حية تستدعي أدنى وخزة منها استجابة في جزء آخر.

وقد شاء الله أن يكون قدرنا هو أن نحمل مع همومنا الوطنية وتطلعاتنا المشروعة هموم منطقتنا بأسرها، وهي منطقة إستراتيجية ذات أهمية قصوى للعالم بأسره، وأن نشارك أكثر من غيرنا في التصدي لمشكلات كثيرة، وقد تقبلنا هذا القدر من منطلق معرفتنا بحجمنا الدولي ورغبتنا في أن نكون قوة فعالة في المسرح العالمي، كما ينبغي أن نكون.

في هذا الإطار يأتي الحديث عن علاقتنا بالقضية الفلسطينة باعتبارها المحور الرئيسي الذي تدور حولها اهتماماتنا، فالمملكة منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز تولي أهمية قصوى للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية المملكة الكبرى متخذة الحق والعدل والموضوعية ومواجهة الحقائق سبيلا للتعامل مع هذه القضية العادلة، فالعدل والحق مرتكز في طبيعة بلادنا تقومان على الاعتبارات الإنسانية والالتزام الأخلاقي.

التوازن الدقيق الذي أقرته سياسة الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله-، وهو النظر إلى المصلحة الوطنية في إطار مصلحة الوطن العربي الكبير، سمة لسياسة المملكة تجاه الوطن العربي، فالحل العملي يكمن في مواجهة صريحة لتحديات واقع حرج، ولا أعتقد أن التحديات التي تواجه المجتمع العربي والإسلامي هي من قبيل التحديات الوهمية، بل هي في حقيقة الأمر تحديات ماثلة أمامنا، وما زالت تتراكم وتتعمق، وهذا مادفع بلادنا إلى التحرك العملي على المستوى العربي والإسلامي والعالمي من أجل الكسب لصالح القضية الفلسطينية.