بدأت معركة التحرير العربية مرحلة جديدة من مراحلها، واستطاعت أن تحقق مع بداية هذه المرحلة خطوات رائعة حقًا في الطريق الطويل الصعب لاستعادة الأرض العربية المحتلة، والثقة العربية المهتزة والكرامة العربية المهدرة.

إن هذه المرحلة هي بغير شك تتويج للمراحل النضالية السابقة قبل هزيمة عام 67 وللمعارك الصغيرة التي خاضتها أمتنا العربية بعد هذه الهزيمة، معارك رأس العش وإيلات والكرامة وعمليات المقاومة في الأغوار وجنوب لبنان وأخيرًا حرب الاستنزاف. وهي كذلك تتويج لجهود سياسية ودبلوماسية على المستوى العربي والعالمي، وهي استفادة ذكية الأوضاع عالمية ملائمة، وهي استجابة فورية لإرادة امتنا العربية التي عبرت عن نفسها بمختلف وسائل التعبير السياسي والثقافي والاجتماعي.

لم يكن أمام أمتنا العربية من سبيل غير المعركة، لانتزاع أرضنا المحتلة من براثن العدوان الإسرائيلي بحد السلاح، وقهر المخطط الصهيوني الأمريكي ضد الأمة العربية بحد السلاح، السلاح العسكري، والسلاح الاقتصادي، والسلاح السياسي والدبلوماسي ثم السلاح القومي الذي يتمثل في وحدة العمل العربي على المستوى الرسمي والجماهيري والاقتصادي والعسكري.

وبخوض معركة التحرير العربية الشاملة، تتحرر الأمة العربية مما يعوق حركتها التاريخية نحو تأكيد ذاتها، وتجديد حياتها، والارتفاع إلى مستوى عصرها تفاعلا خلاقًا، وفعلًا خلاقًا كذلك.

لهذا كان 6 أكتوبر بداية مرحلة جديدة في معركة التحرير والتحضير العربية.

ولهذا كذلك لا ينبغي أن تتوقف هذه المعركة دون تحقيق هدفها الأخير.

لقد عبر الإنسان العربي منذ الأيام الأولى للمعركة أسوار القلق والانتظار الممض واليأس، واقتحم أحاسيس الهزيمة وانطلق من مرحلة اجترار الأحزان المرة إلى مرحلة الفعل الخلاق المظفر، وصادم بجسارة واقتدار قوى العدوان الإسرائيلي الصهيوني الأمريكي، واستعاد ثقته وثقة شعوب العالم في كنوز طاقاته النضالية الكامنة.

على أنه في مرحلة الاندفاع البطولي نحو تحقيق هدف قومي تاريخي كبير، يكون التوقف خطيئة لا تغتفر إن لم يكن استعدادا لمواصلة اندفاع أكبر نحو هذا الهدف.

إن وقف إطلاق النار ليس نهاية للمعركة، ولا ينبغي أن يكون، بل هو مجرد منحنى من منحنيات الحركة النضالية في طريقها الصاعد. وهذا ما ينبغي أن يكون.

إنه ليس وقفًا لإطلاق النار على قرار ما تحقق عقب انکسار الجيوش العربية عام 67 واجتياح الغزاة الإسرائيليين للأراضي العربية في الجولان والضفة الغربية للأردن وسيناء. إنه مجرد لحظة سكون مؤقتة مشحونة بالتوتر وأقصى درجات الاستعداد في غمرة معركة لم تحسم بعد برغم ما حققته من انتصارات عسكرية وسياسية ومعنوية.

ونتساءل: هل من سبيل لحسم هذه المعركة بغير جولة أخرى، بغير مواصلة النضال؟ ما أظن ذلك.

إن الجرح النازف من جسد الوحش الإسرائيلي سيزيده توحشًا وشراسة. لقد أصيب الوحش الإسرائيلي، لا في غروره وغطرسته فحسب، بل في فلسفته التي يقيم عليها كيانه العدواني كله. ولقد أصيب في مؤسسته العسكرية الحاكمة، وأصيب في استقرار أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، وأصيب في قوته الجاذبة لآلاف المهاجرين إليه من يهود العالم، وأصيب في علاقاته الدولية، لا من الدول الأفريقية التي يتوالى قطع علاقاتها به وحسب، بل من دول أوروبية كانت تسانده، أو تعطف عليه، وأصيب كذلك بانفجار تنافض سوف يتسع داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها سنده الأساسي في العدوان والتوسع بل الوجود.

إن الوحش الإسرائيلي لا يلعق اليوم جراحه فحسب، وإنما هو يتأهب كذلك لاستعادة كيانه العدواني الأصيل بعدوان غادر شرس جديد علينا أنه يدرك أن انتصار الأمة العربية عليه ـ حتى في حدود استرجاع ما احتله من أراضيها منذ عام 67 - هو بداية النهاية لكيانه العنصري الصهيوني العدواني كله، ولهذا فإن معركته هي معركة الحياة والموت لهذا الكيان.

ووهم كبير أن تتوقع ضغطا أمريكيا عليه يعيده إلى حدود عام 67، أو اتفاقًا سوفيانيا أمريكيا مشتركا يعيده إلى هذه الحدود. إن أمريکا - نیکسون فضلا عن طبيعتها الاحتكارية المندمجة المصالح مع العدوانية الإسرائيلية الصهيونية التي تغذيها الصهيونية، أبعد من أن تقوم بهذا الضغط، بل العجز عنه، في هذه الأيام بالذات بسبب فضيحة ووترغيت، برغم ما أصاب مصالحها في الشرق العربي من أضرار، وما تعرض له علاقاتها بحلفائها الغربيين من أخطار ولهذا تقوم أمريكا اليوم بلعبة الدبلوماسية المزدوجة. وجه دبلوماسي ترفع فيه راية السلام والدعوة إلى انسحاب القوات الإسرائيلية إلى حدود 67 واحترام الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني، ووجه عملي آخر تدعم به العدوان لا إسرائيلي و تأمر به ومعه سعيا وراء إجهاض الاندفاع التحريري العربي بالتخدير والتضليل والمناورات الخبيثة المعطلة. إن أمريكا تتحرك بين عدة محاذير: حرصها على استمرار الانفراج الدولي بينها وبين الاتحاد السوفيتي، وحرصها على استعادة مكانتها بين حلفائها الغربيين، وحرصها على حماية مصالحها البترولية والاستقلالية عامة في الشرق العربي، ودعم علاقاتها بدوله بل استعادة نفوذها فيها، وحرصها على حماية الكيان الإسرائيلي الصهيوني العدواني كلب حراستها لهذه المصالح وأدائها لضرب حركة التحرر والتقدم والوحدة العربية، بل سمسارها في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. لهذا كله تلعب أمريكا لعبتها المزدوجة في معركتنا التحررية ديبلوماسية سلام وواقع عدوان وتآمر ومناورة.

لهذا لا ينبغي أن تتوقع من أمريكا غير الكلمات والوعود ومحاولات الدوران والمماطلة في متاهات اللقاءات والمباحثات البليدة غير المجدية.

إن معركتنا مستمرة ما دام العدوان الإسرائيلي قالها متصلا. ولن تتوقف المعركة دون أن يتحقق لها الانتصار الكامل لقضيتنا العادلة.

على إنه إذا كانت معركتنا تحرك بإستراتيجية عسكرية وسياسية موحدة على المستوى العربي والعالمي، فما أشد حاجتها كذلك إلى بعد إستراتيجي ثقافي على المستوى العربي والعالمي كذلك. بل لعل الإستراتيجية الثقافية أن تكون عاملًا رئيسيًا من عوامل الانتصار لإستراتيجيتنا العسكرية والسياسية.

1973*

* باحث وناقد مصري «1922 - 2009» لقد