... قصة الإنسان الكبيرة، ليست خطوطًا لحياة فرد من الناس، ولا هي عدة صفحات من كتاب التاريخ أحد الشعوب وإنما هي لحن عظیم رددته أجيال قبلنا، وستردده أجيال بعدنا، ولن تكون لهذه السيمفونية خاتمة، مهما بلغ الكائن الحي من الذروة مداها، ومهما بالغت آلهة الحرب في وصف السعير الذري وبشاعة النهاية. وقصة الإنسان ، لم تكتبها إحدى عبقريات البشر، وإنما أسهمت في صياغتها كائنات الحياة، منذ دبت على الأرض الحياة، وستظل في إبداعها ما بقيت الحياة، مهما أصرت المعاجم على أن الموت إحدى كلمات هذه الحياة.

وقصة الإنسان بسيطة، بساطة الإنسان نفسه، خالية من كل تعقيد وتركيب. ليست في حاجة إلى نظارة نقرأ بها سطورها، بل في حاجة إلى بصيرة واعية وعقل مدرك. وهي كبيرة كبيرة، حتى لا تكاد تحددها أسوار علم الجغرافيا، وهي صغيرة صغيرة، حتى أن طفلا ولد اللحظة يتنفسها بصدره الواهن، ويعيها بقلبه الضئيل ورغم ذلك، فما أكثر ما تعرضت له هذه القصة من سوء الفهم والتقدير. وما أفلح ما أصابها من عنت وخذلان. لأن غمامات من الشر ظللت سماءها لحظات، أو أن ماء آسنا ركد في محيطها هنيهات فذابت معالم القصة العظيمة في نيران قاسية أو بهتت ملامحها في طوفان لا يرحم.

إلا أن الإنسان الكبير لا تعوقه علامات الحياة، ومن ثم فلا خوف على قصته من النهاية والضياع. إذ هي تمضي به من نصرة إلى نصرة، وتحقق له فوزًا بعد فوز لا تزيدها العواقب والصعاب، إلا إصرارًا فوق إصرار.


وفي كتاب جديد، قرأت سطرًا مضيئًا في هذه القصة الشامخة .. سطر هو إلى «الكتاب» أشبه، ولكنه إلى «الكلمة» أدق معنى، وأنقى تعبيرًا. لم أر في هذا الكتاب مؤلفًا ولا معلمًا، وإنما عثرت عن صفحة منيرة من قصة كبيرة اسمها الإنسان. وأنت حين تقرأ معي (محمد الرسالة والرسول)، ستحس أن كلماتي قاصرة عن المغالاة، جامدة عن التضخيم والتجسيم، حيث إنه لا مبرر للشامخات في طلب الرفعة والشموخ.

وإذا طويت عشرين صفحة من الكتاب، فانك ستلتقي ببحث موجز عن رسالة الإسلام ورسولها، مما قد تختلف بشأنه مع المؤلف أو توافقه وربما إذا خالفته لن تبلغ مداي، فاني لا أرضى تفسيرًا للظواهر الاجتماعية يعزل الظاهر عن قاعدتها المادية. وهذا منهج الدكتور نظمي لوقا في تفسير اليهودية والمسيحية والإسلام، فقد حمل الفرد أكثر مما يحتمل، وهو ينظر إلى تلك الديانات الثلاث، فلم يدخل في اعتباره سوى الحاجات الروحية للبشر، والسمات العبقربة في حياة الرسل. وتناسي - تبعًا لذلك - أن القيم الروحية والفكرية هي تغيير حاد عن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية. وأن الرسول الفرد، ما كان ينجح في بلاغ رسالته، لولا أن ظروفه المحيطة به قد دعفته بهذا الطابع الثوري.

وإذن، فالاختلاف بيني وبين مؤلف الكتاب هو اختلاف جذري في الأساس ، لأنه اختلاف في منهج البحث.

وما بهرني حقا هو تلك الصفحات العشرون، التي طويناها منذ قليل، فقد احتوت فصلًا بعنوان «صبي في المسجد» هو وثيقة إنسانية غالية ربما كانت يتيمة الأبوين في أدبنا القديم والحديث.

وأنت أن تبقى طويلا حتى تعرف أن الصبي» هو المؤلف بعينه.

ساقته ظروفه طفلا، إلى شيخ ضرير وقور، غرس في قلبه حبا رفيعًا لرسالة محمد، وتقديرًا لآداب المسلمين، واحترامًا للحضارة الإنسانية حين أضاف إليها العرب رافدًا جديدًا. وتمضي قصة الإسلام مع نظمي لوقا إلى غايتها، فيشب عن الطوق ابنا مخلصًا للضاد، وقلبًا صادقًا في الحب، وفيًا للتراث. ولا يبهرك في القصة أن مسيحيًا عانق محمدًا. لأن ما يستتر خلف هذا المعنى هو أعظم وأجل شانًا. والعمر الذي قضاه نظمي برفقة الشيخ «سيد»، من الفة وفهم وحب.. هو صورة صغيرة لإعمار البشر جميعًا. وما التعايش الإنساني بين المسيحية والإسلام في هذين القلبين إلا تعبير حضاري عن التعايش الإنساني بين الفكريات المتصارعة في عالمنا كله.

1958*

* ناقد وأكاديمي مصري في «1935 - 1998».