ضبط الاختلافات ومحاولات تضييق المساحات من آكد الأمور وأهمها، وخصوصا بين المتأهلين في العلوم الدينية والدنيوية، والهدف هو القضاء على ما يمكن القضاء عليه من نوازع التطرف عندهم، وعند غيرهم من أصحاب مختلف المعارف.

هناك صراعات كثيرة قديمة وتتجدد، وجلها يعود إلى كوامن نفسية، أو فهوم ضيقة، أو نوازع تسلطية، أو جدليات قديمة، أو اجتهادات مختلفة، والأهم اليوم تجاوز هذا وذاك، وهو ما لا يمكن حصوله إلا بالاطلاع على إشكالات الواقع، والتمكن من فهم مجرياتها، والقناعة بأن التقصير عن فهم تنوعات الحياة، والتشابكات الحاصلة في تشكلاتها سيوسع الهوة بين الناس جميعا، ولابد أن نفهم، ولابد أن نفسر، ولابد أن نتحاور، ولابد أن نتجاوز، ولابد أن نترك التعنت، ولا بد أن نمقت التعصب، ولابد أن نمنع الشطط في التأويلات، ولابد أن يسهم الكل في البناء، ولابد أن نتحلى بالوعي، ولابد أن نستفيد جميعًا من الخيرات، ولابد أن نتجمل بالقيم والمعاني الطيبة، ولابد أن نعترف بالتشاركية في بناء المجتمعات، حتى لو اختلفنا دينا أو جنسا أو لغة أو غير ذلك، وحتى لو كنا أكثرية وكان غيرنا أقلية، أو كان العكس هو الصحيح.

المجتمعات الناجحة وتلك التي تريد النجاح، هي المتعددة الأعراق، وهي في ذات الوقت مجتمعات متضامنة، ومتمتعة ومستمتعة بنفس الحقوق التي لها، ونفس الواجبات التي عليها، وهي المجتمعات التي لا يوجد أي اعتبار عند أفرادها للفوارق في الموروثات أو الأحوال؛ فكل إنسان حر ومستقل في اختياراته الخاصة، ولا يكرهه أحد على معتقد أو فكر، وفي الوقت نفسه عليه واجب عدم الإضرار بمن حوله، وعليه أن يثق بالآخرين، ويترك التشكيك فيهم، أو الغوص في نياتهم وبواطنهم، وعليه أيضا أن يعزز ثقة غيره به، وخصوصًا من يجتمع معهم على نفس الأرض ونفس السماء، وذات التراب وذات الوطن.

إن كل الذي يمكن أن يرجوه العاقل والصالح والحكيم هو بذل مزيد من الجهد وتقليب النظر في الآليات الكفيلة بمحافظة الناس على أرضية مفهومة ومتينة، خالية من سلطان الفرض بالقوة، معترفة بالتباينات، متجاوزة للنظرات الاقصائية، مقرة بالخصوصيات، متصالحة وفاتحة أبوابها لكل من لا يعرف الكره، ولا يدري عن العنف، ولكل مهتم بتهذيب السلوكيات، وتحسين الأخلاقيات، ولكل من يقدر الانتظام والانسجام، ويعشق المضي قدما فيما ينفع ويجمع، وفيما يدحض ويمنع أي محاولات تمس من قيمة التسامح، أو تنشر الكراهية، أو تسهم في التمييز السلبي بين الناس؛ ورحم الله أحد أبرز أمراء البيان، الشاعر العباسي الشهير، أبا تمام القائل:

«إن يَختَلِف ماءُ الوِصالِ فَماؤُنا

عَذبٌ تَحَدَّرَ مِن غَمامٍ واحِدِ

أَو يَفتَرِق نَسَبٌ يُؤَلِّفُ بَينَنا

أَدَبٌ أَقَمناهُ مُقامَ الوالِدِ».