فالسر في حيوية المجتمع الفلسطيني وتجدده التاريخي، رغم كل ما يتعرض له من أزمات- يكمن أساسًا في طبيعته حيث يبقى قادراً على تجديد وإحياء نفسه واسترجاع مصداقيته وعدم إمكانية استهلاكه من قبل أي سلطة استهلاكًا نهائيًا، كما أن قدرته على المقاومة هي الضمانة الوحيده لتجدده حيث يبقى قادرًا على إحياء نفسه، وهذا ما يفسر القوة الهائلة التي ما زال يتمتع بها رغم مرور الزمن وهو ما أعطى للقضية الفلسطينية الحيوية الذاتية العميقة والتجدد اللانهائي وإنجاب النماذج التاريخية والتوالد الدائم للكفاح.
فهذه القدرة على مقاومة الزمن والواقع تشكل عنصرًا أساسيًا في تدعيم روح القضية وتفعيل الشعور الإيجابي نحوها، وهي قاعدة تشكل مصدر فاعلية وقوة القضية الفلسطينية وتفوقها وأصل ثباتها، والتي تكمن في قوة النموذج التاريخي الفلسطيني، وذلك لقدرته على البقاء والتجدد رغم الاستبداد والبطش الإسرائيلي وهو عنصر أساسي من عناصر الترسانة المعنوية الفلسطينية.
ومن هنا لم تستطع النظرية السياسة الإسرائيلية المزيفة، التي تقوم على فهم مقلوب للوقائع أن تصمد في وجه عدالة وعقلانية القضية الفلسطينية، غير إفراز السياسات الفاسدة والتعصب والاقتتال والهيمنة والاستبداد وهو ما تسعى إسرائيل إلى تغذيته ضمن إستراتيجية فكرة الصراع، التي هي مسألة محورية في الفكر الإسرائيلي، وتقوم عليها مقومات الشخصية الإسرائيلية التي ينتج عنها فكرة القوة المدمرة والغلبة والسيطرة والتعصب العنصري والديني والتلاعب بالمتناقضات.
فالضربة الحقيقية التي تلقتها إسرائيل كشفت ذوبان قوتها وجبروتها وحضورها المزيف، ولا يزال المجتمع الإسرائيلي لم يخرج من هذه الصدمة التي هدمت ومزقت نموذجه الذي لا يمس وكشفت زيفه، والتي يرى فيها الغرب مقر الحريات والساحة الحيادية للأفكار، وهذا ناجم عن عدم فهم العقلية الإسرائيلية في عالم اختلت موازينه ومعاييره رغم أنها في الواقع جزء من السياسة الغربية الاستعمارية.
الغرب الذي أنشأها وغذاها، والتي تعد ثمرة من ثماره وجزءا من تكوينه، واليوم تتبوأ مكانة الاستعمار مما يعكس خطورة الدور الذي تقوم به، والذي يقوم على النزعة المادية المتجردة والتدمير الأخلاقي والقيمي الممنهج، وهذا ما يفسر المسافة الهائلة التي تفصل المجتمع الفلسطيني عن المجتمع الإسرائيلي في واقع يفتقر إلى العدل المطلق كحقيقة لا مجرد وظيفة أو قيمة سياسية، وأن ذلك لا يمكن تحقيقه على الصورة المثلى إلا من خلال الدولتين، حيث ينعم كلاهما بالأمن والسلام والاستقرار.
ولكن إسرائيل متمسكة برهان القوة لحد الشره كسلطة شاملة وتعسفية، متجهة لقدرها وهذا من أسباب شقائها ودمارها، فبرغم المظاهر السطحية للقوة فإنها تعاني من عقلنة السلوك، وانعدام الحس الأخلاقي وتأسيس الضمير الواعي.
ولذلك، فقدت إسرائيل عالمها المزيف، [الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط] فلم تعد الأفكار المبهرجة والتصورات قادرة على دفع العالم على رؤيتها بصورة غير الصورة التي تراها في غزة.
فهناك رفض شديد لإسرائيل في العالم، وهذا الرفض يتنامى باستمرار.
وفي الوقت نفسه، فالعالم غير راض عن سياسة أمريكا المنحازة إلى إسرائيل .
بالتأكيد مصدر هذا البؤس الأخلاقي الذي تعيشه إسرائيل اليوم يأتي من حالة الاستبداد والبطش، التي تعمل على تدمير الذات الإسرائيلية، وإذا كانت إسرائيل انهارت مع أول ضربة وجهت لها، فلأنها قد أصبحت على درجة من الوهن والضعف، فالهجوم الذي يحدث في غزة تعويض عن حالة الإخفاق والهزيمة التي منيت بها.
واليوم يشعر الفلسطينيون بمدى فداحة الخطر الصهيوني ومعاداته للإنسانية، ورفض الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، فما حدث على أرض الواقع في غزة من عداوات ووبطش وسفك دماء، جريمة لا تغتفر والآن عرف العالم الحقيقة ووقف عليها.
ولكن لا يزال القانون الدولي قانونًا صوريًا يتحرك في إطار مراكز القوى فالمصلحة هي المفتاح السياسي في السياسة فتدني مستوى القوة الإلزامية للقواعد القانونية وضعف الأساس الأخلاقي جعل القوة هي التي تحكم قانون العلاقات الدولية وبالذات في مسألتي الحق والعدل.
يقول الشيخ صالح الحصين: إن معرفة الحق والعدل في القضايا الدولية أو القضايا البينية للدول لا تكفيان بذاتهما ما لم تكن هنالك قوة تقف إلى جوارهما.
فقيمتا الحق والعدل في قانون العلاقات الدولية لا يملكان سلطانهما الأخلاقي ما لم تصحبهما قوة.