أشار الكاتب البريطاني ( آلان دو بوتون) في كتابه الغني عن التعريف «عزاءات الفلسفة» للقدرات الخارقة للفلسفة ومعجزاتها لأنها تجعلنا نفكر بشكل استثنائي بعيدًا عن الفكر السائد لدى القطيع -حسب تعبيره- في حديث أقرب للدعاية منه للطرح المنهجي. يقول بوتون: «وسيبدو من غير المعقول أن يكون مجتمعنا مخطئًا على نحو فادح في معتقداته، وأن نكون نحن -في الوقت ذاته- الوحيدين الذين أدركوا الحقيقة. إننا نخمد شكوكنا ونتبع القطيع لأننا عاجزون عن اعتبار أنفسنا روادًا في اكتشاف حقائق لا تزال صعبة ومجهولة حتى الآن. ومن أجل المساعدة في تجاوز خنوعنا، نلجأ إلى الفيلسوف».

الاقتباس الذي طرحناه لكاتب مهم ومؤثر وتحظى كتبه بانتشار واسع يمثل وجهة نظر سائدة عن الفلسفة يروج لها أنصار الفلسفة حول العالم، فالكاتب يؤكد مرارًا على تجاوز سلطة الأفكار السائدة ولكنه وقع - للأسف - فيما حذر منه. فالاعتقاد أن الفلسفة تمنحنا معجزة التفكير الناقد وربطها بالشك المنهجي الذي يضع الأفكار السائدة على طاولة النقد، لا تخرج عن دائرة الفكر السائد، فالفلسفة كما هو سائد تساعدنا على هدم الأفكار السائدة والمعتقدات الموروثة وتساعد على بنائها من جديد. كتاب «عزاءات الفلسفة» يفتقر للعلمية رغم انتشاره الواسع، فالكاتب يتحدث بلسان المعلن لا بلسان المثقف أو الباحث الجاد، ولم يخرج إطلاقًا عن الأفكار السائدة المتعلقة بالفلسفة، فهو يتعامل معها باعتبارها خروجًا عن المألوف، وهذا بعيد كل البعد عن الحقيقة.

الفيلسوف حسب اعتقاده يساعدنا على فهم الحقيقة، فالمجتمع بأكمله مخطئ ويعتنق أفكارا خاطئة يرثها دون تفكير أو تمحيص، بعكس الفيلسوف صاحب النظرة الثاقبة الذي يحتكر حقيقة الكون ونشأته وعلاقته بالنفس والإنسان. لأنه أدركها بعد المرور بحالة شك طويل ومراجعة مستمرة، فالفيلسوف حسب (بوتون) لا ينطق عن الهوى لذلك هو الرجل المناسب القادر على مساعدتنا كي نتجاوز عجزنا وضعفنا أمام حقائق الكون. في الكتاب قدم بوتون قصة سقراط الدرامية ومحاكمته المأساوية وهو يواجه بشجاعة منقطعة النظير خصومه أصحاب الفكر السائد والرجعي، وبعد ذلك يحكي قصة تلاميذه وهم يبكون بحرارة بعد الحكم عليه بالإعدام بتناول سم الشكران. وكيف أصبح بعد هذه الحادثة المأساوية أول شهيد للفلسفة. قصة إعدام سقراط واحدة من القصص الملهمة لأنصار الفلسفة والمنسوجة من وحي الخيال، وتعد من أقوى الدعايات التي تسعى لتقديم الفلاسفة وكأنهم مناضلين في سبيل الحقيقة.

سنتحدث اليوم عن تلميذ سقراط الأول، على افتراض أن سقراط شخصية حقيقية وليس مجرد شخصية متخيلة حالها حال شهرزاد التي تعامل أحيانًا وكأنها شخصية حقيقية قضت حياتها ناشطة نسوية ومناضلة في سبيل حقوق المرأة. أفلاطون صاحب «نظرية المُثُل» وهي كما نعلم تمثل حجر الأساس في فلسفته. فهل كان الاعتقاد بوجود عالم المُثُل سائدًا ومتوارثًا أم هي نظرية عقلانية أسسها أفلاطون بعد مراجعة الأفكار السائدة في مجتمعه؟ لم تكن نظرية المُثُل مستقلة عن أي تأثيرات أو عناصر دينية ذات طابع عقدي، بل هي أساسًا عقيدة دينية مستلهمة من شرائع سماوية عاصرها أفلاطون أو سبقت عصره. وإن كانت العناصر الدينية المضمنة في نظرية المُثُل محرفة أو بعيدة عن تأويلها السماوي الصحيح.

نريد أن نصنع مقاربة ونبحث عن المفهوم الديني السماوي الذي استلهم منه أفلاطون مفهومه عن (عالم المُثُل) وهو عالم المعرفة الأزلي، عالم لا تدركه الحواس لأنه أسمى من العالم المحسوس، ولأنه يحوي كل المعاني الكلية. وما نشهده في العالم المحسوس ليس إلا انعكاسًا مشوها يعكس حقائق جزئية غير واضحة أو حقائق وهمية ومتخيلة، لما هو موجود في عالم المُثُل من حقائق كلية وخالدة. عالم حقيقي توجد فيه كل الأشياء المتصفة بالكمال. في كتابه (شرح فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن عربي) يقول عفيف الدين التلمساني في شرحه لإحدى حكم ابن عربي: «إن الحق تعالى اقتطع قطعة من نوره بسيطة لا صورة فيها وسماها القلم الأعلى وهي، والله أعلم، التي تسميها الحكماء العقل الأول الذي زعموا أنه أول صادر عنه تعالى وسماه شبحًا للعالم لأنه مبدأ العالم، ومعنى لا روح فيه، أنه تعين أول ومن شأن القدرة الإلهية أن كل ما استعد لشيء تعلق به من الصور، ما هو روح له بحسب استعداده، فإن ذلك الشبح المشار إليه هو القلم الأعلى وأنه استعد أن يظهر فيه روح تخصه، وتلك الروح هنا هي اللوح المحفوظ».

التلمساني هنا، بقصد أو دون قصد، كان يفسر ويشرح عالم المُثُل الأفلاطوني أو العالم الشبيه لعالم المُثُل، ونحن هنا نريد أن نتعرف على الجذور الدينية لنظرية المُثُل. فقد أشار التلمساني للوح المحفوظ وهو مصطلح في العقيدة الإسلامية ومذكور في القرآن الكريم، ويبدو وكأنه مقارب معرفيًا لما يسميه أفلاطون بعالم المُثُل حتى بعد التحريف والإضافات التي تعرض لها في المجتمع اليوناني الذي لم يكن بمعزل عن أي شرائع سماوية، وبالتالي فإن الفلسفة كانت مجمل نتاجهم الفكري في الدفاع عن عقائدهم الدينية ومحاولة تأويلها وترسيخها. أفلاطون في واقع الأمر لم يخرج عن الأفكار السائدة بل يتبناها ويكافح عنها. وما ينطبق على أفلاطون ينطبق على سائر الفلاسفة عبر التاريخ.