في مجتمعات كمجتمعاتنا، مهددة بالزوال ثقافيًا وحضاريًا، كان فرضًا علي أن أقوم بواجبي في الدفاع عن كياننا.

يعتبر الناس أحيانًا أن البكاء لا يليق بكرامة الرجال، وكأن الرجل خشب أو جماد لا يتأثر مهما أصابه، أنا لا أخجل من ترك الجانب الإنساني حرًا، إنه الجانب القابل للفرح وللألم بما يتمشى مع حيوية الوجدان وحيوية الإحساس تعبيرًا عن قوانين الوجود، عندما رحلت زوجتي في الصيف الماضي عشتُ ما كنت قد كتبته يومًا في مولد النسيان قبل أن أجربه من أن الموت انتقال من الوجود إلى اللاوجود وتحرر من الآلام، مشكلة الموت لمن يبقى.. نعم الألم للأحياء، أما لمن جاءه الأجل فهو نهاية الفجيعة.

لتنصرف الآن من حيث الموت والأموات.. لنعد إلى صباك الذي رتلته مع أبيك، كما كتبت في «حدث أبو هريرة قال» على أنغام القرآن وترجيع الحديث مما لم أكن أفهمه طفلا، ولكنني صغت على إيقاعه لحن الحياة، كيف كانت هذه الصياغة؟

كان لحن حياة مليئًا بالمفاهيم الجوهرية التي هي قبل كل شيء ما وراثية، مما يحجبه عند الكثيرين الإيمان، الإيمان كالحقيقة نوع من أنواع الحاجة للطمس والنسيان، أي محاولة للإفلات من المأساة الوجودية التي تتمثل في التساؤل والحيرة، وذلك عندي جوهر ما أسميه الوجود الكريم، وأذكرك بمقدمة مولد النسيان عندما أتحدث عن الوجود، وهو عندي الوجود الحقيقي، الذي لا يكون إلا بالوعي، كرامة الوجود تعني أن يكون الإنسان في حيرة السؤال الدائم، وألا يكون أعمى أو راضيًا، قانعًا بأن الوجود هبة، الإنسان هو الذي يعطي المعنى للوجود بمحاولة استنباط هذا المعنى والبحث عنه، إذا لم يكن الوجود قائمًا على التساؤل فهو أشبه بما يكون بوجود الحيوان، الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتساءل عن معنى وجوده.. تتساءل حتى ولو كنا واثقين من أننا لن نجد إجابات، ووعي السؤال هو معنى الحياة إذن؟

لم أجد الجواب، ولا يمكن لنا ربما أن نجده، عندما يجبن الإنسان، أو يضعف، أو يتألم يلجأ إلى الدين يصل إذن إلى ما وصل إليه الغزالي عندما قال إن هناك وراء العقل ما يتجاوز العقل، لأن المعرفة تقف عند حدود لا تتجاوزها، وبخاصة عندما تخرج عن القوانين أو السنن الطبيعية أو المنطقية.

1969*

‏* كاتب وأديب وسياسي تونسي«1911 - 2004»‏