قصة «حي بن يقظان» لكاتبها «الأندلسي» ابن الطفيل من القصص المؤثرة في عالم الأدب العالمي، فقد استلهمت من أحداثها وأفكارها قصص وروايات وأعمال سينمائية، واستلهمت منها شخصيات كرتونية شهيرة مثل طرازان وماوكلي «فتى الغابة» وروبنسون كروزو. وتكاد تكون من التجارب القصصية القديمة الأكثر حشدا للأفكار الفلسفية. «حي بن يقظان» هي قصة البحث عن حقيقة الوجود من خلال بطلها حي بن يقظان، هي قصة فلسفية بامتياز، وعندما نصفها بأنها «فلسفية» نعني أنها تتضمن عقائد دينية قديمة. وباختصار يمكن القول إن قصة بن يقظان كانت تصويرا قصصيا لعقيدة وحدة الوجود. فعقيدة وحدة الوجود، كما ذكرنا مرارا وتكرارا في مقالات سابقة، هي العنوان الأبرز في عالم الفلسفة والفلاسفة. ويمكن اعتبارها مدخلا لفهم الفلسفة اليونانية والأوروبية، ودونها فإن قراءتنا للفلسفة ستكون قراءة غير مكتملة.

كيف تسربت الأفكار الفلسفية ممثلة في عقيدة وحدة الوجود داخل نسيج المجتمع الإسلامي؟ سؤال مهم للغاية يجيبنا عنه عباس محمود العقاد في كتابه «التفكير فريضة إسلامية» بقوله: «فالدين الإسلامي قد انتشر في أقطار شاسعة كانت فيها من قبله عبادات وثنية وغير وثنية، وقد تسرب بعضها إلى أبناء تلك الأقطار واختلط بعضها بالعقائد الإسلامية من طريق الوراثة والاستمرار». إن العقائد الدينية القديمة استمرت عند الشعوب الداخلة حديثا للدين الإسلامي، وبالتالي فإن أفكار الفلاسفة ومعتقداتهم الدينية كانت موجودة قبل ترجمة كتب اليونان. وقصة بن يقظان ورحلته نحو الحقيقة كتبها ابن الطفيل ليصل لنتيجة معروفة مسبقا وهي الإيمان بوحدة الوجود وهي عقيدة دينية قديمة آمن بها شعوب متعددة ومنها الشعب اليوناني. يقول ابن الطفيل في كتابه واصفا تجربة بن يقظان وتأمله في الكائنات الحية ومظاهر الطبيعة من حوله: «فيظهر له بهذا التأمل أن الأجسام كلها شيء واحد: حيها وجمادها متحركها وساكنها. إلا أنه يظهر أن لبعضها أفعالا بآلات، ولا يدري هل تلك الأفعال ذاتية لها، أو سارية إليها من غيرها. وكان في هذه الحال لا يرى شيئا غير الأجسام. فكان بهذا الطريق يرى الوجود كله شيئا واحدا».

بطريقة غير مباشرة يشرح ابن الطفيل فكرة وحدة الوجود ويجعل من تسلسل الأحداث القصصية خادمة لهذه الفكرة، بداية من فقدانه أمه وعيشه ونموه في ظل الظبية إلى موت أمه الظبية وقيامه بتشريحها لمعرفة سر الموت وسر الروح. وبعد ذلك إطلاقه العنان لخياله للتفكير في الكون والوجود من حوله في قالب سردي مصمم مسبقا لإثبات عقيدة وحدة الوجود. ابن الطفيل حاول أن يقدم فكرة وحدة الوجود بأسلوب قصصي مبتكر يجعلها منسجمة مع مبادئ الدين الإسلامي. ويستخدم اللغة الرمزية غير المباشرة كي لا يصدم مشاعر أفراد المجتمع أو يضع نفسه في مواجهة مباشرة مع الرأي السائد في المجتمع الإسلامي الذي لا يمكن أن يتسامح مع عقيدة وحدة الوجود أو يتقبلها بصيغتها اليونانية التي تعتقد أن الله والكون جوهر واحد غير منفصل.

أراد ابن الطفيل أن يمسك العصا من المنتصف ويأخذ موقفا أقرب للحياد من عقيدة وحدة الوجود، يتضح ذلك في النتيجة التي توصل لها من خلال تجربة بن يقظان التأملية. يقول: «فانتهى نظره بهذا الطريق إلى ما انتهى إليه بالطريق الأول، ولم يضره في ذلك تشككه في قدم العالم أو حدوثه. وصح له على الوجهين جميعا وجود فاعل غير جسم، ولا متصل بجسم، ولا منفصل عنه، ولا داخل فيه ولا خارج عنه، إذ الاتصال، والانفصال، والدخول، والخروج، هي كلها من صفات الأجسام، وهو منزه عنها».

يتضح تأثر ابن الطفيل بأفكار وحدة الوجود، يؤكد ذلك النتيجة التي توصل لها وهي نتيجة معروفة مسبقا كما أسلفنا وآمن بها فلاسفة آخرين مثل ابن سينا الذي يحمل وجهة نظر مقاربة حد التطابق لوجهة نظر ابن الطفيل. الإيمان بعقيدة الوجود جعلت الفلاسفة عبر التاريخ وباختلاف الثقافات في مواجهة دائمة ومستمرة مع أتباع الأديان السماوية.