اعتاد وعينا الثقافي أن يتلقى الاسم هكذا: «عابد خزندار»، وعابد قال في إهداء كتابه معنى المعنى: «إلى روح عمي حسين خزندار، الأديب الذي لم يأخذ حقه في الحياة».

أوقفني أن يكون اسم الكتاب «معنى المعنى»، والإهداء لروحِ شخصٍ له حق لم يأخذه، فمِن معنى المعنى أن نتحدّث عن حسين، من خلال كتابةِ عابد، بوصفها حديثًا عن عمّه، وربما نكون -هنا- أنتجنا معنىً لمعنى الإهداء.

ثمة موقفان حصلا لعابد خزندار يتعلّقان بالمكونِ الثقافي، وما يعادله من فهم المصادر والإحالات وتمثلها، الأول: في مكتبةِ والده الزاخرة بالإنتاجِ الأدبي العربي، التي كان عابد يستعين بعمّه حسين؛ كي يشرح له غوامض كتبها، فيشرح له كأنّه مَن كَتَب تلك الكتب؛ فيتجلى العمُّ مصدرًا واعيًا بالمقروء، وأبعاد الثقافة المكانية، ومرامي الإبداع فيها، ثم اتّساق أفقه معها، وهو مع هذا لم يأخذ من المجلس المعرفي مكانًا، أما الموقف الثاني ففي مكتبة عباس حلواني، حيث يجد عابد خزندار كتابَ «رأس المال» لكارل ماركس، فيستعين بمدرسِ الأدبِ في المدرسة النظامية؛ كي يشرح له غوامض الكتاب؛ إذ المدرس كان لا يتوقف عن الحديث -بإعجاب- عن ماركس والأمميّة الثالثة، إلا أنَّ عابدًا تفاجأ بأنَّ المدرس لم يقرأ الكتاب، ومن ثمَّ لم يستطع أن يَفهم ما قاله ماركس.. هنا تجلّى المدرسُ مصدرًا فارغًا مما كان يُصدّره للطلاب في الفصل الدراسي، وهو مع ذلك صُدِّر في مجلس المعرفة، وأُهمِلَ العم حسين خزندار، ذلك الذي اتسقت مصادره ومعارفه مع إبداعه وشرحه.

أفترض أنَّ هذين الموقفين شَكّلا معنىً في ذاكرةِ عابد، فأهدى كتاب «معنى المعنى وحقيقة الحقيقة» لحسين خزندار، وصارت كتاباته امتدادًا لإبداع حسين المهمش، أو حقه المهمل، وقد أعُدّها نمطًا يتحرك به عابد؛ ليصنع اتساقًا بين بنيتيْن؛ بنية تحتية فيها المعنى، وبنية فوقية فيها معنى المعنى؛ وتتجادل البنْيتان في تشكيلِ الحياةِ اليوميةِ، دون الالتزام بنظريةٍ ما، ودون توقف الدلالة؛ حيث قال في كتابه «قراءة في كتاب الحب» «هذا لا يعني أنني حداثي، ولا يعني أنني ضد الحداثة، أنا ضد النظرية الواحدة».

وربما كانَ انتماء عابد خزندار إلى النقد النسوي، هو من قبيل تشكيلِ الحياة اليومية على الطابع الأنثوي؛ وليس على نظريةٍ حادةٍ موحّدة، ألا ترى أنَّ عابدًا أُعجب بمسرحية الدمية لأبسن؛ لأنَّ بطلتها قالت للقسّ: سأضيفُ للمجتمع الهواءَ النقي؟ والتهميش الأنثوي لا يحتاج دليلا إلا إذا احتاج النهار إلى دليل؛ لهذا ربما عقدَ عابد خزندار بين تهميشِ عمّه والفكرةِ الأنثويّة؛ وذلك من خلال الارتكاء على الواقعِ في بحثِه الموسوم بـــ (بحث عن واقع أنثوي)، ومقصوده بالواقعِ -هنا- الصوتَ المسموع المستقل عن الذكر، ورأى عابد أنَّ الأنثى عند العربِ والغربِ، كان لها واقع مستقل سرعان ما تلاشى، وسنلاحظ أنَّه يعقد هذا الواقع بالأدب؛ فعند العرب جاء بمثال شعرٍ أنثويّ، بلا نسبة، وهو «وما ذنب أعرابية عرضت لها/ظروف النوى من حيث لم تكن ظنت.

وسؤالنا لعابد: أين قائلته، ومن هي إن كان لها واقع فعلا؟، جواب عابد لهذا السؤال أجده في مثالِ الغرب؛ إذ يأتي عابد بمثال «شارلوت برونتي» الروائية الإنجليزية التي عاشت حياتها الأدبية باسمٍ رجاليّ مستعار، ثم بعد موتها أعاد التاريخُ لأدبها اسمَ صاحبته الحقيقي، فقال عابد: «لقد أصبح لها واقع من خلال عملها الأدبي، وليس من خلال حياتها الفعلية» هذه المقولة من عابد ربما هي ما يفسر نظرته لواقعية الأنثى عند العرب قبل أن تتلاشى؛ أي أنَّ واقع المرأة لم يتمثّل فعليًا، بل كان منتجًا أدبيًا، ولفظ الأدب يعني المنجز الجمعي وليس الفردي فحسب، ويهمني هنا أنَّ رابطةَ الأدبِ لديه هي ما ستُعيدني إلى قوله عن حسين خزندار: «الأديب الذي لم يأخذ حقه في الحياة»، فواقع حسين -هنا- أشد وطأة من شارلوت برونتي، حيث غابَ واقعه الأدبي الذي سيدفن حضورَه في التاريخ واللغة، وهذا يجعلني أُلمِح إلى ظاهرةِ اللغة المتفردّة، بوصفها صانعة الصوت الواقعي، فعابد ذكر في كتابه «الإبداع» أنَّ «العمل الفني ليس إلا عملية توفيق أو توليف للمتناقضات، وكلمة التوليف تعني في حد ذاتها التقاء النقائض»؛ لهذا فإنَّ من مهام هذه المقالة أن تُركز على أنَّ أسلوبَ الاستطراد والعشوائية التي يتميز بها عابد خزندار، هي منظومة بهاجسٍ كبيرٍ هو الانتصار للهامش والمهمشين، وحين أُشِير إلى إعجابٍ خزنداريٍّ مبكرٍ جدًا، بالفرنسيّ ألفريد جاري -المغمورِ خارج سياقاته الغربية الضيّقة- فإنني أستحضر به عمَّه حسينًا، وفي الآن نفسه أتأوّل فعلَه إعجابًا مرتبطًا بمسارين يُركّزان على ما أضافه ألفريد للغةِ الفرنسية وهي كلمة (la pataphysique)؛ وتعني البحث عن الحلول الخيالية لمشاكل الإنسان، المسار الأول: هامشيّة مصطلح (الباتافيزيقا) في التاريخ الغربي، فضلا عن غيره، وتهميش المصطلح من تهميشِ صاحبه ألفريد. والثاني: كون الحلول الخياليّة مجالا رحبًا للتخلّصِ من قيد النظريات المقيدة للإبداع الإنساني.

التفاتة:

قالت لي قارئة/كاتبة: «إنَّ الالتفاتَ صارَ سمةً لأسلوبٍ في مقالاتك»؛ فجعلتُ التفاتةَ هذه المقالة التفاتةً لالتفاتتِها؛ إذ في تعليقها فهمٌ أطربني، كون الالتفات سمة لبنيةِ المقالات المخفية، ولم تكن لفظة (التفاتة)، إلا كرأسِ جبل الجليد، ثم هي -في الآن نفسِه- وفاءً لعابد خزندار الذي انتصر -بأسلوبه ورؤيته الخاصة- للأنوثة المهمّشة.