لم يَعُد الإبداعُ عملا نخبويّا يقتصر على القلّة المُبدِعة في مختلف المجالات. كما أنّه لم يعُد تَرفا للخاصّة، بل أصبح هو المحدِّد لمصائر الأُمم ومكانتها، وآخره الإبداعات المُتسارِعة والمُتلاحِقة في التقنيّات الرقميّة التي هي بصدد تغيير الحياة على كوكبنا في نَوعٍ من القطيعة التطويريّة غير المسبوقة، التي تَطرح سؤالَ أيّ بشر سنكون؟. تكفي الإشارة إلى تقنيّات وسائط التواصُل الاجتماعي، وكيفيّة تغييرها أنماط حياتنا، وآخرها الذكاء الاصطناعيّ الذي أَخذ يُصدِّع دعائم نظام العالَم القائم، ويُثير من التساؤلات والمَخاوف بقدر ما يُثير من الحماسة، وهو على كلّ حال لا يزال في بداياته الأولى، وتطوُّره مفتوح الأُفق.

بِتنا نروم من العقول الشابّة أن تأتينا بـ«أكثر الأفكار جنونا»، لتحويلها إلى تقنياتٍ رياديّة تَضمن قصب السبق في الإنتاج والتحكُّم. ذلك ما تبحث عنه كُبريات الشركات الرائدة في مختلف مجالات الإنتاج، حيث تُحاول رصْدَ الأدمغة الأكثر نخبويّة بين طلّاب الجامعات الرائدة، فتَستقطبها وتَحتضنها، وتوفِّر لها كلّ إمكانات العطاء المُبدِع وغير المسبوق، ما يدرّ الأرباح غير المسبوقة حين تحوَّل أفكارها المبدعة إلى صناعاتٍ رائدة.

ويتمثّل المظهر الثاني من الإبداع في التحوُّل من الإبداع الفردي النخبوي إلى الإبداع الجماعي من قِبَلِ فِرَقِ العمل المُختصّة. أبرز الأمثلة على ذلك جوائز نوبل في مختلف العلوم، التي يتقاسَم كلّا منها أكثر من باحث من أكثر من جامعة أو بلدٍ يشكّلون فِرقا بحثيّة في مجال بعينه. وفي ما هو دون ذلك، فإنّ الإبداع أَصبح نِتاج الفِرَق الإنتاجيّة، كل في مجالها الخاص. تَجتمع كلٌّ من هذه الفِرق دوريّا، وتُمارِس ما يسمّى في الإبداع «العصف الذهني» أو توليد الأفكار، حيث يعلق النقد، وتجهد الجماعة، للإتيان بجاروفة أفكار، فيها الغثّ والسمين، ثمّ تُدرس هذه الحصيلة، ويتمّ اختيار الأفكار القابلة للتطوير إلى أفكارٍ إبداعيّة تُعطي غير المسبوق من التقنيّات أو أساليب العمل. أوَليستِ الحضارةُ الرقميّة وتقنيّاتها المُذهلة مجرّد عمليّة إبداعيّة يصنعها ويقودها الشبابُ أساسا؟.

لا بدّ بعد هذا التمهيد من التحوُّل إلى صلب الموضوع، فنَعرض لتعريف الإبداع ومكوّناته، وشروطه، وعمليّاته، ومن ثمّ معوّقاته، كي ننهي هذه العجالة بمشروع تربية الإبداع.

يَرِدُ في قاموس «محيط المحيط» بدع الشيء وابتدعه، أي خلقه على غير ذي مثال. وفي الآية الكريمة من سورة البقرة «الله بديع السماوات والأرض»، أي خالقها على غير ذي مثال سبقه، فالإبداع تعريفا هو السبق والأصالة والخروج عن المألوف على شكلِ أفكارٍ ومُنتجاتٍ رياديّة، وهو دنيا النهايات المفتوحة، وتجاوُز الحدود وكسْر قيودها، والتجرّؤ على ولوج المجهول، للخروج بالرائد غير المسبوق، وذلك على النقيض من العرف والعادة والتكرار والنمطيّة، والتمسُّك بما دَرَجَ عليه الأوّلون.

وتتعدَّد أشكالُ الإبداع، فمنها مَزْجٌ فريد للأفكار في صيَغٍ جديدة، وإدراك علاقات جديدة بين مكوّنات وضعيّةٍ ما، وإعادة ترتيب غير مسبوقة للعلاقات بين عناصر موقف ما، والتفكير المُفارِق DIVERGENT بمعنى الخروج عن الشائع والدروب المُمهَّدة، وإيجاد دروبٍ جديدة وغير مألوفة للتعامل مع القضايا، وذلك على عكس التفكير المُقارِب Convergent الذي يتمسَّك بالشائع والعرف والعادة، وهو ما قال به «جول بول جيلفورد» عالِم النَّفس الأميركي الشهير.

أمّا مكوّنات العمليّة الإبداعيّة فهي متعدّدة بدَورها، وتتكامل فيما بينها، كي تُشكِّل التفكير المُبدِع في صيغته النهائيّة. يتمثَّل أوّلها في رصيدٍ مَعرفيّ يتّصف بالغنى والعُمق والشمول في مجالِ الاختصاص، فالشاعر المُبدع، وكذلك العالِم المُبدع، لا بدّ لكلٍّ منهما من التبحُّر في مجال اختصاصه والإحاطة به، بحيث تختمر هذه الحصيلة المعرفيّة، ويُصبح بالإمكان تصوُّر علاقاتٍ غير مسبوقة بين عناصرها ورؤىً تَخرج عن المألوف. ويتمثّل العنصر المكمِّل للأوّل في الذكاء بالمجال تبعا لنظريّة الذكاءات المتعدّدة التي طوَّرها «هوارد غاردنر»، أستاذ علم النَّفس في جامعة هارفرد. ويتكامل هذان المقوِّمان معا، كي يُشكِّلا مَنجمَ الإبداع وشطحات إلهامه غير المسبوقة، فالشاعر يجب أن يتمتّع بكلٍّ من الذكاء اللّفظي والانفعالي، والمُهندس المعماري يتعيَّن أن يتمتّع بالذكاء الفضائي والمكاني.. وهكذا. وتشكِّل الحريّة الجوّانيّة والمرونة والطلاقة الذهنيّة التي تُتيح الانطلاق، وكسْر التقليد، والخروج عن الدروب المُمهِّدة الركنَ الثالث لأساسيّات التفكير الإبداعي، وتُتمِّمها الدافعيّة الجوّانيّة النّابعة من الذّات التي تَدفع إلى خَوْضِ غمارِ غير المألوف، بحيث يَنغمس المرء في العمليّة الإبداعيّة، ويَستغرق فيها بنَوعٍ من الفرح، مُتناسيا ذاته وما حوله. ويتوّج هذه المقوّمات الشخصيّة المناخ الاجتماعي والمؤسّسي المُهيِّئ للفُرص، والمُشجِّع على الإبداع ورعايته، الذي يوفِّر لها كلّ المتطلّبات الضروريّة، وهنا تحتلّ الحاجة إلى الإبداع مكانتها. ومن أبرز الأمثلة على الحاجة إلى الإبداع ما نشهده حاليّاً في المُقاومة في غزّة، وكيف تمَّ تحويل المظلّات الشراعيّة المُستخدَمة في الرياضة إلى أداةِ هجومٍ وقِتال، وقبلها البالونات الحارقة ومقلاع الراعي، وغيرها الكثير مّا لا يتيح المجال المحدود لهذه المقالة استعراضه، فالقول «إنّ الحاجة أمّ الاختراع» يَجِدُ التجسيدَ الحيّ له في هذه المُقاومة وفنونها، وما تُبدعه من أساليب غير مسبوقة.

وتتكامل هذه النقاط في العمليّة التالية: رصيدٌ معرفيّ وذكاءٌ نَوعيّ في المجال يولِّد شطحات إلهام، ومن ثمّ الشغل على هذه الشطحات وصقْلها، وصولاً إلى درجة الإتقان، ومنها يتولّد العمل الإبداعي. فالإلهام والإتقان يشكّلان الثنائي المولِّد للإبداع، فعمليّة الإتقان فائقة الأهميّة، ولا يتمّ إبداعٌ من دونها. ويُقال في هذا الصدد أنّ بيتهوفن قد مزَّق ما يقرب من 5000 ورقة نوتة موسيقيّة خلال شغله على السيمفونيّة الخامسة، كي تأتي في قمّة إبداعها المعروف، فبعد الإلهام يأتي الشغل الدؤوب على هذه الفكرة، كي تصل إلى شكلها النهائي الإبداعي، وذلك في مختلف المجالات، سواء الشعريّة والأدبيّة منها أم العلميّة أم الصناعيّة.

ولكي نوضح العلاقة بين الإلهام والإتقان في العمل الإبداعي نضرب مثل منجم استخراج الألماس، فكلٌّ من الاختصاص والتبحُّر فيه والذكاء النَّوعي في المجال يشكّلان المنجم، والماسة الخامّ تشكِّل الإلهام، وبعدها تأتي عمليّة الصقل المُتقن، لتحويل الماسّة الخامّ إلى جوهرة فنيّة فائقة الجمال.

هذا الصقل المتخصِّص يشكِّل الإتقان. أمّا الدافعيّة الجوّانيّة فهي تتكامل مع الحاجة البرّانيّة المؤسّسيّة، وهُما بدورهما لا غنىً عنهما لإنتاج العمل الإبداعي. بذلك، يكون لدينا مثلّث الإبداع المتمثّل في كلٍّ من الطلاقة الذهنيّة والدافعيّة والحريّة الجوانيّة من ناحية، والحاجة البرّانيّة من الناحية الثانية، ويُتوَّجان بكلٍّ من الاستعداد الإبداعي والمُمارَسة.

كلّ ما يعيق نموّ مكوّنات الإبداع ونشاط عمليّاته يشكِّل عنصرا معوِّقاً للإبداع، سواء على الصعيد الفردي أم الجماعي أم الاجتماعي، وهذا الأخير هو الأكثر خطورة، مّا يجب العمل على علاجه، ومنه في عالَمنا سيادة المرجعيّة الماضويّة، وتكريس العادة والاستقرار، والسَّير على خطى الأوّلين. كذلك ثلاثيّة العصبيّات والفقه السلفي والاستبداد، وآليّة اشتغالها المُتمثّلة في كلٍّ من التأثيم، والتحريم الفقهي، والتجريم الأمني، وهي ثلاثيّة تختم على العقول والنفوس، وتمنع انطلاقة جذوة الحياة، بحيث لا تترك من مجالٍ سوى للتبعيّة الفكريّة والنفسيّة، والانقياد إلى نظامٍ من المرجعيّة الفوقيّة الذي يُعمَّم على مختلف مجالات النشاط والعلاقات. معوّقات الإبداع هذه هي من العوامل الأساس المسؤولة عن تأخُّر الشعوب وتخلُّفها عن الركب، وبالتالي تبعيّتها، ويتلازم معها تدنّي الحاجة إلى الإبداع الريادي، والانغماس في فرطِ استهلاك ما أبدعه الآخرون من صناعاتٍ رائدة، والتباهي والتنافُس في هذا الاستهلاك.

تُشكِّل تربيةُ الإبداع المشروعَ النقيض لمشروع القمع وقمْقَمة الطّاقات والاتباع والمرجعيّة الفوقيّة البرّانيّة. تربية الإبداع مشروعٌ وطني مستقبلي أصبح ملزما لكلّ وطنٍ يريد أن يحتلّ مكانةً ودَورا على الساحة العالَميّة مُتسارعة الديناميّة والتغيير، وهي مشروع طويل النَّفَس، ومتعدّد الأبعاد والمرجعيّات، بدءا من البيت والمدرسة وبقيّة مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة، والعمل والنشاط العامّ من بعدهما، وهي تتطلّب إعداد القوّة التغييريّة اللّازمة لها، أي وضع إستراتيجيّة وطنية لتنمية الإبداع، وإطلاق العنان لمُختلف مجالاته.

تبدأ تربيةُ الإبداع من البيت، ومنذ سنوات الحياة الأولى، وذلك من خلال العمل على إطلاق طاقات الطفل الحيّة، وتشجيعه على التعبير، والتساؤل، والمُبادرة الذاتيّة. جلّ الأطفال مُبدعون بشكلٍ ما تلقائيّا، ويكفي التأمُّل في إبداعات اللّعب الإيهامي، وما فيه من طلاقة ومرونة ذهنيّة وخيال إبداعي. كذلك تنمية الدافعيّة الجوّانيّة والمُبادرة والأصالة، وهو ما يتطلَّب توافُر الوالديّة الراعية والمُتسامحة التي تَعترف بكيان الطفل وطاقاته وتجلّيها، وذلك على نقيض الوالديّة المتسلّطة القمعيّة والمبخِّسة للطفل ومُبادراته وإمكاناته. ينطبق الأمر نفسه على المدرسة، ونُظم التعليم فيها، والعلاقات الصفيّة والمناخ المؤسّسي. كذلك تشجيع الحوار والمُبادرات والمشروعات المُشترَكة ذات الصيغة الإبداعيّة، وإطلاق العنان للحلول غير المألوفة للمشكلات، وتنمية الطلاقة الذهنيّة والدّوافع الجوّانيّة. ويُكمّلها مشروع تنمية الذكاءات المتعدّدة التي تشكِّل أساسَ الدّافعيّة الجوّانيّة نقيض أحاديّة المهارة المَعرفيّة، والجواب الواحد الصحيح المعمَّم على الجميع، الذي يَمنع التفكير المُفارَق.

وفي ما يتجاوَز البيت والمدرسة، ثمّة الأُطر المؤسّسيّة النّاظمة للمُجتمع والإنتاج وعلاقاته، التي يجب أن تنخرط في المشروع الإنتاجي الوطني الإبداعي، لتكون بمثابة إستراتيجيّة تنمويّة كبرى تقوم على إعداد قدرات العطاء، وإطلاق طاقاته المُنتِجة. بذلك وحده تتوافَّر فُرص النماء للإنسان والكيان، وكلمة السرّ المفتاحيّة في هذه الإستراتيجيّة تكمن في الرهان على الشباب والجيل الطالَع، فهُم يشكّلون مَنجم الإبداع من خلال طاقاتهم الوثّابة، ودافعيّتهم للعطاء، وكيانهم المتوجِّه نحو المُستقبل. فإذا أُطلقت طاقات الحياة المعطاءة هذه فسوف تقدِّم المُدهِشَ الذي يخرج عن الدروب الممهَّدة والمعهودة، وبذلك يُصنع المستقبل في عالَمٍ مُتسارع التغيير، اللّاهِث وراء الجديد.

الذكاءات المتعدّدة تشكِّل أساسَ الدّافعيّة الجوّانيّة نقيض أحاديّة المهارة المَعرفيّة والجواب الواحد المعمَّم على الجميع الذي يَمنع التفكير المُفارَق.

*أكاديمي من لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق»