نقف الآن على عتبة العصر الحديث، لنأخذ بأسباب الحضارة، لكي نأخذ مكاننا اللائق بنا على مستوى العالم، ونسهم في تقدم البشرية، ولكن كل هذا يعتمد على الفكر اعتمادًا كليًا ومباشرًا، فهو المحور الأساسي للتغيير نحو الأفضل.

وعندما نتحدث عن الفكر فنحن لا نتحدث عن قائمة من المعلومات أو مجموعة من الشهادات، أو حصيلة من الدورات، أو مقدرة على فهم التكنولوجيا، أو انتهاج سبيل أي ثقافة كانت. صحيح أن كل هذه دلائل، ولكن ليس هذا هو المقصود بالفكر، حيث يكون هذا صحيحًا عندما يكون للفكر قيمة إبداعية، ودافعية إلهامية، ووعي تأملي، وقدرة ابتكارية تنقلنا من مرحلة التلمذة إلى مرحلة الإبداع والقياده التحويلية، ومن الزمن المحلي إلى الزمن العالمي، وتبوؤ السيادة العالمية.

لقد وضعت رؤية 2030 الفكر في مصاف أولوياتها، أسلوبا وتفكيرا وتنفيذا، وذلك من خلال إعادة بناء منهجية التفكير، والانفتاح على الحياة بمعطيات جديدة، وبدقة متناهية وثقافة مطلقة، وابتكار رؤية حقيقية واضحة.

فالتغيير الهائل الذي حدث مع الرؤية حدث من خلال الانفتاح على فكر العصر، وبناء ثقافة حديثة تتقبل التغيير، فكانت الحافز الإلهامي، والنموذج الذي أعاد بناء الذات، والطريقة المثلى لمرتكزات النجاح، ومتطلبات الريادة، وإدراك الواقع والحقائق بمنتهى الوعي، وإبداع طرائق منهجية في التفكير والأبداع الإدراكي، وإحداث نظام فكري لتحديث الذهنية.

فواجب المثقف الحديث اليوم إعادة اللغة إلى التفكير، خصوصا المحتوى الفكري والتفكير المنطقي.

فإذا ما تناولنا قضية التفكير على المستوى العربي بشكل عام، فأول ما يتبادر لنا إحدى أطروحات الدكتور محمد عابد الجابري الذي يؤكد فيها أن وضوح الرؤية، وامتلاك رؤية ثابتة ركيزة أساسية في نجاح أي مشروع حضاري، ولكن لن يتم هذا إلا عبر قطيعة مع طريقة أساليب التفكير القديمة التي يمارسها العقل العربي في بناء خطابه، وفي معالجة قضاياه وقضايا الواقع العربي، داعيا إلى تدشين عصر جديد ينتج منه عقل عربي متجدد يتعامل مع الواقع كما هو لا كما هو متخيل، في محاولة لتجاوز حالة الأزمة الراهنة التي يعانيها الفكر العربي، خاصة أساليب التفكير التي منشأها عصر التدوين، الذي يتطابق تاريخيا مع العصر العباسي الأول.

فعندما كان الفكر العربي فكرًا منطلقًا على سجيته قبل عصر التدوين كان فكرا رياديا يقظا، وعندما دخل مرحلة التدوين أطر بتقسيمات وتعريفات منهجية أفقدته حرية الحركة، حيث وضع المدونون قواعد وأصول لكل علم ومجال من مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية.

وعلى الرغم من محاولات التجديد التي تحدث بين حين وآخر لأساليب التفكير، فإنها بقيت في الإطار نفسه، والنمط العام الذي رسمه عصر التدوين، ما دفع بعض المفكرين في ثلاثينيات القرن الماضي إلى الاقتباس، أو بالأحرى تقليد أساليب التفكير الأوروبي، فحدث نوع من الثنائية بين مرجعيتين للفكر: مرجعية تنتمي إلى عصر التدوين العباسي، ومرجعية تنتمي إلى عصر التدوين الأوروبي.

وإن كان لكل مرجعية خطها وخطابها الثقافي، فالمرجعية الأوروبية انطلقت منذ عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، وواصلت تطورها في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وأنتجت عصر الحداثة وما بعد الحداثة في القرن الـ20، وهي عصور تنتظم كلها في خط ثقافي واحد.

في حين أن مرجعية الفكر العربي ظلت ثابتة على حالها إلا من بعض محاولات التجديد ضمن الإطار العام لعصر التدوين، ما يستوجب تدشين مرحلة تدوين جديدة، فالتطورات والتحولات التي شهدها العالم في السنين الأخيرة تدفع إلى مراجعة أساليب التفكير التي يتشكل منها الفكر العربي، وإعادة بنائها بالصورة التي تجعلها تتعامل مع الواقع، حيث إن المرحلة التي يمر بها العالم اليوم تشهد تحولا عميقا يرتبط به المستقبل لا بالماضي ولا بالحاضر بل بالمستقبل نفسه.

فالتخطيط للمستقبل يتم اليوم ليس بحسب ما كان، بل بحسب ما يتوقع أن يكون، فالتفكير المستقبلي تنتمي مرجعيته إلى المستقبل، ولكن لا يعني هذا التخلي عن الماضي بتاتًا، ولكن الحضارة المعاصرة فرضت نفسها علينا بالفكر والتقنية، بينما أصيب واقعنا العربي بالتراجع، ولذلك فالنموذج الذي يجب تبينه من أجل إعادة بناء الذات الاستفادة من التجارب التاريخية للثقافات الأخرى، ومزجها بتجربتنا.