وفق خطتها المرسومة بدقة ومساعيها الجادة لاستكمال تطوير منظومتها القضائية بما يتوافق مع المستجدات الحديثة التي أفرزها الواقع الذي تعيشه بلادنا في الوقت الحالي، دخل نظام المعاملات المدنية حيز التنفيذ الفعلي وبات ساريًا أمام المحاكم عقب انقضاء 180 يومًا من تاريخ نشر نصوص النظام في صحيفة «أم القرى» بتاريخ 1/12/1444 الموافق 19/6/2023، عقب إجازته من مجلس الوزراء أواسط شهر مايو الماضي.

ويمثّل سريان النظام الجديد الذي يضم ثلاثة أقسام رئيسية تشمل الالتزامات (الحقوق الشخصية)، والعقود المسماة، والحقوق العينية، ويقع في 124 صفحة ويتكون من 720 نصًا ومادة قانونية نقلة تشريعية كبرى وعلامة فارقة في التاريخ السعودي، كونه ينظم أحكام العقود والمعاملات المالية بين الأفراد، ويُعد حاكمًا ومنظمًا لجميع المعاملات المدنية، ما لم يوجد نظام خاص ينظم معاملات خاصة.

ومن الأهداف الرئيسية التي سيحققها نظام المعاملات المدنية تعزيز استقرار التعاملات، وتقليل أسباب إبطال العقود أو فسخها، وتوسيع نطاق الحرية التعاقدية، كون الأصل في العقود والشروط الصحة والجواز، وهو ما ينسجم مع التطور المتسارع الذي تشهده المملكة، مما يتطلب المزيد من المرونة في إنشاء العقود، إضافة إلى حماية الملكية الفردية، وهو ما يسهم في زيادة النشاط الاقتصادي.


لذلك فإن هناك شبه إجماع وسط المشتغلين في مهنة القانون بأن هذا النظام هو أكبر الأنظمة وأكثرها شمولية، وذلك من واقع أنه المرجع لتنظيم العلاقة بين الأفراد في تعاملاتهم وجميع أمور حياتهم. فالنظام الجديد يهدف إلى توفير البيئة العدلية للمواطنين والمقيمين على حد سواء، وتهيئة البيئة الاقتصادية للمستثمرين، وتمكين الجميع من معرفة حقوقهم وواجباتهم من دون الرجوع للمحكمة، حيث روعي في إعداده الاستفادة من أحدث الاتجاهات القانونية وأفضل الممارسات القضائية الدولية، بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها.

كل تلك المعاني تضمّنها تصريح مهندس هذه النقلة التشريعية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - وفقه الله – عندما قال في تصريح صحفي إن المملكة العربية السعودية «تسير وفق خطوات جادّة في السنوات الأخيرة نحو تطوير البيئة التشريعية، من خلال استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وتُرسِّخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان وتحقّق التنمية الشاملة، وتعزّز تنافسية المملكة عالمياً من خلال مرجعياتٍ مؤسسيةٍ».

وتتجلى أبرز مكامن قوة النظام وأهميته في أنه عامل رئيسي لتهيئة البيئة الاقتصادية للمستثمرين من خارج المملكة، لا سيما في ظل توجّه الدولة نحو استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية التي تبحث عن ملاذات آمنة، بحيث يتحول القانون إلى عنصر جذب لأولئك المستثمرين الذين يبحثون بطبيعة الحال عن بيئة قانونية آمنة تتيح لهم الحفاظ على مستحقاتهم ومكتسباتهم بموجب نصوص نظامية منضبطة وقاطعة لا تحمل التأويل أو التعديل.

كما يظهر اهتمام النظام الجديد بالقوانين الدولية في تركيز نصوصه على حماية الملكية وهو ما يتماشى مع اهتمام المملكة بهذا الجانب، إضافة إلى استقرار العقود وحجيتها وآثارها بين المتعاقدين، والأحكام المتعلقة ببطلانها وفسخها، وأحكام الفعل الضار وقواعد التعويض عنه. كما تطرقت نصوص النظام كذلك إلى تحديد مصادر الحقوق والالتزامات وآثارها، ووضوح المراكز القانونية؛ بما ينعكس إيجاباً على بيئة الأعمال وزيادة جاذبيتها، وتسهيل اتخاذ القرارات الاستثمارية، إضافة إلى تعزيز الشفافية وزيادة القدرة على التنبؤ بالأحكام في مجال المعاملات المدنية والحد من التباين في الاجتهاد القضائي وصولًا إلى العدالة الناجزة، والإسهام في الحد من المنازعات.

هذه الجهود المتواصلة التي تبذلها القيادة الرشيدة بتوجيهات ومتابعة مباشرة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – تهدف بصورة أساسية لتأكيد وتعزيز المكانة المتميزة للسعودية على الصعيد العالمي، وهو ما يؤكد الحرص على أن تكون المنظومة التشريعية عادلة وحافظة لحقوق جميع الموجودين في هذه البلاد.

وقد اتسعت تلك الجهود لتتحول إلى نهضة تشريعية كبرى وغير مسبوقة في تاريخ المملكة، حيث لم تقتصر على مجرد استكمال منظومة القوانين والتشريعات بل شملت تطوير الكادر البشري، حيث تم تدريب القضاة وبقية العاملين في السلك القضائي على استخدام الأساليب التقنية الحديثة وذلك لترقية واقعنا التشريعي واستكمال النواقص، تجسيدا لما جرى التأكيد عليه بكل وضوح في رؤية المملكة 2030، بعد أن اتضحت الحاجة إلى مسايرة المجتمع الدولي، وضرورة مواكبة المتغيرات بما لا يتعارض مع مقاصد الشرع الحنيف.

كذلك فإن مما يلفت النظر في النهضة التشريعية التي تشهدها السعودية في الوقت الحالي هو أن القوانين تأتي تباعًا ودون تعجّل أو تسرّع، وهذا النهج العقلاني يثبت أن هناك خطة متكاملة يجري تنفيذها وفق آجال محدّدة، وأن المملكة تتمسك بالسير في طريقها نحو ترسيخ الحاكمية وجعلها أساسًا للدولة الحديثة، لتعزيز مكانتها في المحافل الدولية، ودعم حقوق الإنسان، وجعلها جزءًا من ثقافة المجتمع وتكوينه.

وقد انعكست الآثار الإيجابية لهذه الجهود من خلال تحسّن وضع السعودية على معايير الشفافية العالمية، وارتفاع تصنيفها لدى المؤسسات المالية المرموقة، ودخلت ضمن أفضل البيئات حول العالم، لا سيما بعد تزايد الحملة الوطنية لاجتثاث آفة الفساد المالي والإداري، وتغليب معايير النزاهة والشفافية والمحاسبة، فتلك الجهات المالية الدولية تتمسك بتوفر الأجواء القانونية التي تضمن حقوق جميع الأطراف.

وحتما فإن هذه المكاسب سوف تتواصل خلال الفترة المقبلة، لتجني بلادنا ثمرة هذا التخطيط الدقيق والجهود المتواصلة التي تبذلها قيادة رشيدة لم تتوان يومًا عن السير في طريق التقدم والنماء، ولم تتأخر قط عن بذل كل ما يضيف لهذه البلاد ويرفع شأنها بين الأمم.