لكم من اللغة العربية ما شئتم، ولي منها ما يوافق أفكاري وعواطفي، لكم منها الألفاظ وترتيبها، ولي منها ما تومئ إليه الألفاظ ولا تلمسه، ويصبو إليه الترتيب ولا يبلغه، لكم منها جثث محنطة باردة جامدة، تحسبونها الكل بالكل، ولي منها أجساد لا قيمة لها بذاتها، بل كل قيمتها بالروح التي تحل فيها لكم منها محجة مقررة مقصودة، ولي منها واسطة متقلبة لا أستكفي بها إلا إذا أوصلت ما يختبئ في قلبي إلى القلوب وما يجول في ضميري إلى الضمائر، لكم منها قواعدها الحائمة وقوانينها اليابسة المحدودة، ولي منها نغمة أحوال رناتها ونبراتها وقراراتها لى ما تثبه رنة في الفكر ورنة في الليل، وقرار في الحاسة، لكم منها القواميس والمعجمات والمطولات، ولي منها ما غربلته الأذن وحفظته الذاكرة من كلام مألوف مأنوس تتداوله ألسنة الناس في أفراحهم وأحزانهم.

لكم لغتكم ولي لغتي لكم منها العروض والتفاعيل والقواني، وما يحشر فيها من جائز وغير جائز، ولي منها جدول يتسارع مترنما نحو الشاطئ، فلا يدري ما إذا كان الوزن في الصخور التي تقف في سبيله، أم القافية في أوراق الخريف التي تسير معه.

لكم منها الشعراء الفحول الفطاحل الخنازير، ومن صدرهم وشطره وخمسهم وذيلهم وشرحهم، ولي منها ما يتمشى متهيبًا مخجولا في قلوب الشعراء الذين لم ينظموا بيتا ولم ينثروا سطرًا.

لكم منها الرثاء والمديح والفخر والتهنئة، ولي منها ما يتكبر عن رثاء من مات وهو في الرحم، ويأبى مديح من يستوجب الاستهزاء، ويأنف من تهنئة من يستدعي الشفقة، ويترفع عن هجو من يستطيع الإعراض عنه، ويستنكف من الفخر إذ ليس في الإنسان ما يفاخر به سوی اقراره بضعفه وجهله

لكم لغتكم ولي لغتي.

لكم من لغتكم «البديع» و«البيان» و«المنطق»، ولي من لغتي نظرة في عين المغلوب، وديمة في جفن المشتاق، وابتسامة على ثغر المؤمن، واشارة في يد السموح الحكيم.

لكم منها ما قاله سيبويه والأسود وابن عقيل ومن جاء قبلهم وبعدهم من المضجرين المملين، ولي منها ما تقوله الأم لطفلها، والمحب لرفيقته، والمتعبد لسكينة ليله.

لكم منها «الفصيح» دون «الركيك» «والبليغ» دون «المبتذل»، ولي منها ما يتمتمه المستوحش وكله فصيح، وما يغص به المتوجع وكله بليغ، وما يلثغ به المأخوذ وكله فصیح بليغ.

لكم منها البنيان المرصوص ولى منها السراب من الشحارير والبلابل تتطاير وتتنقل مرفرفة بين حقول الخيال ورياضه. لكم منها القلائد الفضية، ولي منها قطر الندى، ورجع الصدى، وتلاعب النسيم بأوراق الحور والصفصاف.

لكم منها «الترصيع» «والتنزيل» «والتنسيق»، وكل ما وراء هذه البهلوانيات من التلفيق، ولي منها كلام إذا قيل رفع السامع الى ما وراء الكلام، واذا كتب بسط أمام القارئ فسحات في الأثير لا يحدها البيان. لكم منها ماضيها وما كان في ماضيها من الأمجاد والمفاخر، ولي منها حاضرها ومستقبلها بما في حاضرها من التأهب وما سيكون في مستقبلها من الحرية والاستقلال.

لكم لغتكم ولي لغتي، لكم من لغتكم عازف يتناولكم عودًا فيضرب عليكم انتقامًا تختارها أصابعه المنظلفة، ولي من لغتي قيثارة أتناولها فأستخرج منها أغنية تحلم بها روحي وتذيعها أصابعي.

ولكم أن تسكبوا لغتكم بعضكم في مسامع بعض ليسر ويعجب بعضكم ببعض، ولي أن أستودع لغتي عصفات الريح وأمواج البحر، فلا آذان أشد غيرة على لغتي من آذانكم، وللبحر قلب أربأ بها من قلوبكم، ولكم أن تلتقطوا ما يتناثر خرقًا من أنواب لغتكم، ولي أن أمزق بيدي كل عتيق بال، وأطرح على جانبي الطريق كل ما يعيق مسيري نحو قمة الجبل، ولكم أن تحنطوا ما يبتر من أعضائها المعتلة، وأن تحتفظوا به في متاحف عقولكم، ولي أن أحرق بالنار كل عضو ميت وكل مفصل مشلول.

1923*

‏* كاتب ورسام لبناني من أدباء وشعراء المهجر «1883-1931»