إن للغة جسما لا ينمو إلا بالغذاء الجديد، وإن لها روحا لا يعلو أدب عليها ولا يدوم أدب دونها. ولكن الأجسام عرضة للأسقام، وآراء الناس في الأرواح لا تخلو من الأوهام، فاللغة إذا تحتاج إلى رجل الدين حينا، ورجل الطب أحيانا. أما إمامها فهو شاعرها، وأما طبيبها فهو أديبها. وما العمل إذا مرض الأديب وعجز الشاعر -العياذ بالله- بما هو صحيح من روح اللغة؟ من يري الصحيح فيستخدمه ليداوي ما اعتل فيها، فيجدد قواها ويفسح لها من الحياة أجلا زاهرا؟.

اقطع الغصن اليابس، ولقح الغصن الطري. تسلم الشجرة فتنمو وتزهر. كذاك فعل دانتي في اللغة الطليانية، وشكسبير في اللغة الإنجليزية، وفيكتور هوغو في اللغة الفرنسية. ولا ريب أن في سوريا ومصر اليوم من يحاولون، شعرا ونثرا، وإن عد إحسانهم قليلا، تجديد حياة اللغة العربية، وتوسيع نطاقها لفظا وبيانا. إني ممن يعشقون هذه اللغة الشريفة، وإذا كانت الإنجليزية تسابقها أحيانا إلى خيالي، وتجلس مكانها في معقولي، فهي لا تزال على لساني، وفي قلبي، وطي أحلامي. ليعذر مني القارئ هذا الإفصاح، فمن العادي الفطري أن يحب المرء لغة أجداده.

من جميل ما قلت يا صديقي الفاضل إن رقي اللغة في رقي أبنائها المشتغلين بها. هذه حقيقة كبيرة، استأذنك بتقديم أختها الصغيرة، وهي أن رقي اللغة لفي الخروج عن السمج العقيم من مألوفها مع المحافظة على روحها، ولكن الخارجين من الكتّاب اليوم عن المألوف وعن الروح معا كثيرون، فيخيل إليك وأنت تطالع ما ينشرون أنك تقرأ لغة أجنبية في ألفاظ عربية، ولكني أفضل هذا الإنشاء ـ وفيه من غرابة وركاكة ما فيه - على إنشاء عربي لا غبار على «سيبوياته»، وقد أخذت معانيه كلها ومبانيه من «الفرائد الدرية»، وغيره من «المحنطات» اللغوية، وعندي أن ضرر مثل هذه الكتب أشد من ضرر لغات الأجانب فيمن لا يحسنون من الكتاب حتى الترجمة، بل لا يحسنون حتى التقليد. وإننا إذا علمنا التلميذ أن يقول كتابة «تمشى الأمير» مثلا، فيكتب «تحركت ركابه»، أو «أخفق المرء سعيا»، فيكتب «عاد بخفي حنين»، أو «نكث عهده»، فيدهشنا ببلاغة «قلب له ظهر المجن»، وغيرها من ثمار البيان الشبيهة بثمار صدوم، فإننا نعلمه حديثا لا يفهمه أبناء زمانه، وإن فهموه فلا يهمهم ولا يفيد.

إن في مثل هذا القديم، بل هذا التقليد، جمود اللغة وعقمها، وكلنا نعلم ما يتبع الجمود والعقم.

أجل أستاذي، إن رقي اللغة في نموها الدائم، والنمو في الحياة، والحياة فيما تألف اليوم ونكتشف غدا، والاكتشاف في الفكر والنظر والإرادة، والفكر والنظر والإرادة لا تدوم عاملة بغير الحكمة، والحكمة في أن تخبر المألوف، فتتجاوزه إلى سواه.

من الحسن أن ألم بشيء من شوارد اللغة، وأحسن من ذلك أن أفهم إذا استطعت أصول الشوارد، فانتفع بالأسباب إذا كانت شاملة. وقد اتخذ من القوالب ما ترتاح إليه، وفيه، أفكاري. ولعمري إن أوضاع اللغة، لا أساليب أرباب الإنشاء فيها، خير ما يتعلم التلميذ، ويقتبس الكاتب العصري. ولا بد له إذ ذاك، إذا تفرد في ذكائه، أن يتفرد في أسلوبه، فينبذ السمج والعقيم من مألوف الأوضاع، ويعود إلى لوح الوجود، وإلى حاضر الأمة في حياتها الجارية، فيتخذ من الاثنين مادة لبيانه. إنه ليجد في الاثنين غذاء طيبا جديدا لأسلوبه ولأفكاره، لمجازه أيضا وخياله.

على رأسي امرؤ القيس والمتنبي. على رأسي ابن خلدون والغزالي. وأسكن في رأسي عينين تريانني أرضا رحبة إلى جانبي الطريق التي سلكوها. ومن الحكمة إذا سرت في الحقول مستكشفا، مستوحيا، أو متنزها. أن أراقب من حين إلى حين منعطفات الطريق، فلا أهجرها تماما، ولا أسلكها عموما، وهذا ما أعنيه في نبذ المألوف، والمحافظة على روح اللغة.

1921*

* كاتب وأديب لبناني «1876 - 1940».