من أبشع التناقضات التي يعيشها، ليس إنسان هذا العصر فقط، بل إنسان جميع العصور، منذ عرف التمييز بين سلوكيات مرضي عنها، لأنها من مكارم الأخلاق، التي نادى بها ودعا إليها دعاة الفضائل قبل رسالات السماء وبعدها وحتى اليوم.. من أبشع هذه التناقضات أن توصم سلوكيات معينة بالعار والعيب وبأرذل الصفات التي يحصرها قاموس الفضائل والأخلاق، ومع ذلك، ورغم كل ما يتفجر فيها من صديد القذارة والفحش، أن تكون نسبة المتورطين فيها، والواغلين في حماتها، أكبر كثيرًا من نسبة المرتفعين عنها والحريصين على التمسك بأهداب الفضيلة تعففًا وتقوى وخوفًا من الزواجر والنواهي كما جاءت بها رسالات السماء.

من هذه السلوكيات المرفوضة في العلن، والملاحقة في الخفاء ووراء الجدران ما عرف على مر الأزمان (بالدعارة) بمفهومها الشائع وهو (الممارسات الجنسية المحرمة وغير المشروعة). وحين تتصايح بأن العالم - بغض النظر عن المواقع في الأرض - قد أصبح يزداد غرقا في هذا الوحل، فإننا نؤكد حقيقة هذا التناقض في حياة البشر، وقد نتناول المجتمعات بصنوف من التعليل، وفنون من التفسير، لانتشار الظاهرة، أو هي (الوباء) الذي أفرز أنواعًا من الأوبئة، القاتلة، آخرها في القائمة الطويلة العريقة، وباء نقص المناعة الذي يزلزل العالم من أقصاه إلى أقصاه، ليس لأنه (قاتل) فقط، وإنما لأنه مصر على الانتشار والتسلل إلى جميع بقاع الأرض، ولأن العلم لا يزال يقف مشلول الذهن أو الحركة أمام خطره الرهيب، وعلة الانتشار السريع، أو كبرى هذه العلل وأخطرها هذه (الدعارة) بغض النظر عن نوعية (ثنائيتها) بين الغارقين في وحولها.

ولكن هل خطر لنا أن نتساءل عما إذا كانت دعارة الممارسات الجنسية هي النوع الوحيد مما يطلق عليه أو يسمى (دعارة)؟!! وإذا كانت هناك أنواع أخرى - وهذا هو الواقع - فأيهما أشد خطرًا، وأبعد تأثيرًا، في بنية المجتمعات، وفي قضاياها على اختلاف وتنوّع هذه القضايا؟!

والواقع الذي أشعر أن علينا كمثقفين، تقع على عوائق شرائح منا مسؤولية النظر، ومحاولة توخي الأصلح والأفضل في مسيرة المجتمع، أن نواجهه، وأن نعرف خطره، هو أن هناك دعارة فكرية... وهي دعارة لا علاقة لها إطلاقًا بمفهوم الدعارة الجنسية، ولكنها في تقديري أخطر منها، لأنها (مقبولة) ومرضي عنها، وتمارس للأسف على نطاق واسع في عالمنا العربي على الأخص، وإن كان ما يسمى «العالم الثالث» موبوءًا بها بنسبة تزيد هنا وتنقص هناك، تبعًا لشدة أو تراخي إلحاح القضايا التي يعايشها المجتمع.

والدعارة الفكرية تجتمع مع (الدعارة الجنسية) في خصوصية هي (استئجار) الممارسة أو دفع مبلغ ما يزيد أو ينقص، مقابل مزاولة هذه الممارسة، يدفعه ما لا بد أن يسمى (المستفيد)... والمستفيد هو ذلك الذي يريد أن يشوه الحقائق، بأن يقلب الباطل حقًا... أن يخدع شرائح معينة من القراء عن الواقع المظلم والمأساوي الذي تعيشه جماهير أمة يرتبط مصيرها بذلك القرار أو البيان رقم (1)، الذي يخترق الأسماع من أجهزة الإذاعة والتلفزيون ليعلن القضاء على نظام يتهمه بكل ما يكون هو في الواقع من مؤيديه وأنصاره طوال دهر طويل... ذلك نوع واحد هو الأكثر شيوعًا، والأكثر ظهورًا في العالم الثالث، وإن كانت في تجارب الحياة السياسية في هذا العالم أنواع أخرى لا يتسع لها مجال هذا المقال... والمستفيد يعلم ما (للكلمة) من تأثير على العقول والأفهام والضمائر، على المستوى الجماهيري الواسع فما أسرع ما تمتلئ أنهر الصحف والمجلات، إلى جانب طاقة المايكروفونات، بهذه الكلمة تمجد، أصحاب البيان (إياه)، وتنزل أبشع اللعنات وأشدها قذارة على النظام الذي تم الإجهاز عليه. والذين يكتبون لا يجدون ما يمنع هذه الكلمة، ويتفتون في إبداعها هم بالطبع أولئك الذين (قبضوا)... ويظلون يقبضون)... وهم أنفسهم الذين يكتبون، نفس الكلام لأصحاب قرار أو بیان آخر يحمل نفس الرقم يعلن القضاء على نظام أخذ دوره في العبث الداعر القذر بالحقائق ومصالح الجمهور.

ومع أن النوعين من (الدعارة) يتقاضى أو (يقبض) أجره على ممارسة القذارة، فإن هناك فرقًا لا بد أن يذكر، وهو أن الدعارة الفكرية تتمتع بالأجر الأعظم والأكثر سخاء... ليس فقط لما تغوص فيه من الوحل والصديد، وإنما أيضًا - وهذا عجیب حقًا - لالتزام الصمت المطبق حتى عن المحاسن في نظام ما... ويحكى بهذه المناسبة عن مجلة (قبض) صاحبها من رموز النظام في بلد من بلدان العالم الثالث، مبالغ طائلة، دون أن يكتب في مجلة حرفًا يمدح أو يقدح... فلما سئل في ذلك كان جوابه العجيب... أن ما قبضه.. وما سوف يقبضه في المستقبل أيضًا هو ثمن (السكوت)...

بيوت الدعارة الجنسية في كثير من بلدان العالم، تضع لافتات بأسماء أصحابها... فما أكثر هذه اللافتات التي تحملها بيوت مماثلة للدعارة الفكرية في العالم الثالث وهي تتميز بعد ذلك بأنها تجد الأبواب مشرعة، لاستقبالها وانتشارها دون قيود!

1986*

* أديب وناقد ومترجم سعودي «1914 – 1997».