حتى قيام إسرائيل كان اليهود موجودين في فلسطين دونما مشكلة، بل كانوا أكثر وعيا بخطورة الصهيونيّة، وأكثر رفضا لها من عرب فلسطين أنفسهم.

تقول فلسفة التنوير الأوروبي: «من لا يتعلمون من التاريخ محكوم عليهم بتكراره»، وها هي إسرائيل بمجازرها في غزة اليوم، وقبل ذلك في عموم فلسطين، تكرِّر أخطاءَ النازيّ التي استندت إليها في تبرير احتلالها «أرض الميعاد»، وإقامة وطنٍ قوميّ ليهود الشتات.

لقد تأسّست إسرائيل من رَحَمِ الحركة الصهيونيّة، وهي الحركة التي قمعَت وعطَّلت نموَّ حركة التنوير اليهوديّ (الهاسكالا) التي كان أَسّسها موسى مندل، تلميذ كانط، في ألمانيا نهاية القرن الثامن عشر. وقد حاولت الخلاص من طغيان الماضي الانعزاليّ، والاندماج في النزعات التقدميّة واللّيبراليّة الحديثة عبر قراءةٍ إنسانيّةٍ للكتاب المقدَّس تتجاوز عقدة الخيريّة التي أَضفت مزيدا من التوتُّر على تاريخ اليهود وعلاقتهم بالآخرين.

غير أنّ القرن التّاسع عشر لم ينتهِ إلّا وكانت «الهسكالا» قد هُزمت أمام الحركة الصهيونيّة كنزعةٍ قوميّة استيطانيّة، استعادت مفهوم الاختيار والوعد الأسطوريّ بالأرض، لتُبرِّرَ بها أطماعها الاستعماريّة، ولم تَعمد إلى التعلُّم من التاريخ، ولكن إلى تكراره الفجّ، ولا إلى تجسيد روح الشريعة (الهالاخاة)، بل أزَكت تأويلاتها العنصريّة.

قراءتان نقيضتان للعهد القديم

يَشي تاريخ اليهود، كما سجَّله التراث العبريّ أساسا، بتكوين مملكتَيْن سياسيّتَيْن في بداية الألف الأوّل ق. م.، ومُمارَسة نَوعٍ من الحُكم الذّاتي في عصر المكابيّين (القوميّين اليهود) في القرن الثاني ق. م.، قبل أن ينتهي وجودهم المستقلّ بتحطُّم الهيكل الثاني على يدَيْ القائد الروماني تيتوس في العام 70 م، وبداية حقبة الشتات التي استمرّت نحو ألفَيْ عام، وهنا ينقسم الفكر اليهودي إلى تيّارَيْن أساسيَّيْن:

التيّار الأوّل عنصري، لا يتوقّف عن نَدْبِ حظوظه، والتحسُّر على الدولة المفقودة، داعيا إلى استعادتها بالتجمُّع والعودة إلى الأرض المقدَّسة، حتى يتحقَّق الوعد الإلهي، وهو الفَهْم الذي أفضى في النهاية إلى ميلادِ الحركة الصهيونيّة قبل قرنٍ وربع القرن، وتأسيس دولة إسرائيل قبل ثلاثة أرباع القرن. يَستبطن هذا التيّار مفهومَ الاختيار، الذي ينهض بدَوره على تصوُّرٍ قَبلي للإلوهيّة، يَعتبر (إلوهيم/ يهوه) خاصّا بالعبرانيّين، وخصوصا أسباط يعقوب الاثنَيْ عشر؛ فالعرق هو باب اليهوديّة، وهو فَهْمٌ ينطوي على تجاهُلٍ فجٍّ للتعدّديّة العرقيّة واللَّونيّة، التي يكفي لإثباتها يهود الفلاشا من الزنوج على سبيل المثال لا الحصر.

يتجذّر مفهوم الخيريّة فيما ورد في سفْر «التثنية» من آياتٍ تدعو إلى إبادة الأغيار المُفتقِرين أيّ فضيلة، وما جاء في سفْر «الخروج» من آياتٍ تحضّ اليهود على التعامل الأخلاقي الانتقائي بتوخّي فضائل مثل العدل والإحسان تجاه اليهود الآخرين، والتغاضي عنهما في مُواجَهة الأغيار، على منوال التحريض على سرقة المصريّين قبل الخروج. وفي المقابل، يجري تجاهُل ما وَرَدَ في الإصحاح الثامن من سفْر التثنية من أنّ الله لم يخترْ العبرانيّين إلى الأبد، بل اختارهم كما اختار الكنعانيّين قبلهم، عندما كانوا أحبارا يخدمون الله بوازعٍ دينيّ، ولكنّه تخلّى عنهم بسبب فساد عبادتهم وحبّهم الشهوات. لذا، فقد حذّرهم موسى «وإن نسيت الربّ إلهك وذهبت وراء آلهة أخرى وعبدتها وسجدت لها، أشهد عليكم اليوم أنّكم تبيدون لا محالة كالشعوب الذين يبيدهم الربّ من أمامكم كذلك تبيدون، لأجل أنّكم لم تَسمعوا لقول الربّ إلهكم» (تثنية، 8: 19 - 20).

والتيّار الثاني إنساني، يرى أنّ العودة إلى الأرض مسألة روحيّة، إلى الله وليس إلى الدولة، مؤكدا أن اليهود عندما كانوا يعيشون في ظلّ دولة مستقلّة كانوا يجدون صعوبات كبرى في حفْظ عقيدتهم نقيّة، حتّى أنّ انهيارا أخلاقيّا ودينيّا وقعَ في أثناء حُكم يشوع الذي خلفَ موسى. كما تكرَّر بعد ذلك في أثناء حُكم النبي/الملك سليمان، وفي ظلّ حكّام المَملكتَيْن الشماليّة والجنوبيّة الأقوياء الذين تميّزت أيّامهم بالسلام والرخاء الاقتصاديّ، ففي كلّ مرّة كان اليهود ينحرفون إلى عبادة آلهة الكنعانيّين الوثنيّين. وفي المقابل، بدا اليهود أكثر تديّنا وقُربا لله وهُم تحت الحُكم الأجنبيّ، فكانوا يطيعون الشريعة، ويخافون الله بصورةٍ واضحة، ومن ثمّ استخلص النبي إرميا، أحد أنبياء اليهود الكبار في القرن السادس قبل الميلاد، أنّ وجود دولة يهوديّة مستقلّة من عمل إبليس، وليس من عمل الله. هذا الفَهم الإنسانيّ هو الذي عبّر عنه النبي حزقيال في زمن النفي، عندما بشَّر اليهود بأنّ الله سيُعيدهم إليه – وليس إلى الأرض – ويجعلهم من جديد شعبا له: «وأعطيهم قلبا واحدا، وأجعل في داخلهم روحا جديدا، وأنزع قلب الحجر من لحمهم، وأعطيهم قلب لحم لكي يسلكوا في فرائضي، ويحفظوا أحكامي، ويعملوا بها، ويكونوا لي شعبا، فأكون لهم إلهاً» (حزقيال، 11: 19، 20)، وهو ما يتجسّد في دعوة سفْر المزامير إلى الإحسان وفعْل الخير مع الجميع: «الربّ قريب من جميع دعاته الذين يدعونه بالحقّ» (مز، 144: 18)، وأنّ «الربّ صالح للجميع ومراحمه على كلّ صنائعه» (مز، 32: 15).

هكذا تصير أرض الميعاد الحقيقيّة هي الأرض بأكملها، إذ يتحقّق فيها وعْدُ الله بأن تتبارَك بذريّةِ إبراهيم، فتتحوّل جميع قبائل الأرض وشعوبها إلى شعبٍ واحد لله يؤول تنوّع عناصره لا إلى صراعٍ واقتتال، بل إلى تناغُمٍ وتكامُل.

بمجيء المسيح نبيّا للرحمة، وليس للقتال، ورفْضه أن يكون مَلكا مقدّسا لليهود، وفتْحه باب شريعة موسى ودين الربّ للأغيار/ الأُمم، مانحا الخيريّة لجميع المؤمنين المُنتمين إلى إبراهيم بالروح لا الجسد، وبالعقيدة لا العرق، فقد انتصر للتيّار الإنسانيّ. وبرفْعه / صلْبه، لم تَعُد المسيحيّة مجرّد فرقة يهوديّة، بل تأكَّد استقلالها دينا جديدا. وكما تجري السنن التاريخيّة، خضعت العلاقة بين الديانتَيْن لنَوعٍ من الاضْطراب، آلَ معه الوجودُ اليهوديّ في أوروبا المسيحيّة تدريجيا نحو العزلة، وصولا إلى عالم «الغيتو» الذي تبلْور أولا في المُدن الإيطالية مطلع القرن السادس عشر، وبلغَ ذروته في بولندا نهاية القرن الثامن عشر، حيث أصبح عالَما مُغلقا بإحكام، رسَّخ الشعور لدى اليهود بالاغتراب التاريخيّ.

الصهيونيّة تجهض الهاسكالا

من قلب عتمة «الغيتو»، وُلدت حركة تنوير يهوديّة (الهاسكالا) كتجلٍّ فرعيّ لفلسفة التنوير الأوروبي، وحاولتْ أن تُعيدَ الاعتبار إلى الفَهْمِ الإنسانيّ للكتاب المقدَّس، الذي هُمِّش طويلاً، ولم يتبلْور أبدا كتيّارٍ رئيس في الفكر اليهوديّ. كان مُفترضا، في سياق الهاسكالا، أن تحدث مصالحة بين اليهود والتاريخ على قاعدة التسوية النفسانيّة بين عقدة الاختيار الموروثة عن الفَهْم العنصريّ للكتاب المقدّس وعقدة الاضْطهاد المُنبثقة من رَحَمِ تجربة الشتات، وهو ما كان يسير إليه الحال مطلع القرن التّاسع عشر من خلال تشكيل أنموذج اليهوديّ العلمانيّ المُندرِج في تيّار الوعي الإنساني، خصوصا في الحركات اليساريّة والتقدّميّة التي رافقت وأعقبت الثورة الفرنسيّة. غير أنّ المفاجأة الصادمة هي ميلاد الحركة الصهيونيّة في ثمانينيّات القرن نفسه تأثُّرا بتصاعُد المَوجة القوميّة في أوروبا.

نَظرتِ الصهيونيّة، منذ بدايتها، إلى المتنوّرين اليهود على أنّهم سذّجٌ، واعتَبرتْ أنّ النَّزعة الكونيّة للهسكالا تنطوي على تناقُضٍ لا بدّ أن يفضي إلى هزيمةِ الذّات اليهوديّة، حيث إنّ انعتاق اليهوديّ، وما يعنيه من اعترافٍ به كفرد يتمتّع بحقوقٍ وواجباتٍ مُساوية لكلِّ فردٍ على المستوى الكونيّ، يعني في الوقت نفسه استحالةَ الانعتاق الجماعيّ، أي دون التخلّي عن المُشتركات الجماعيّة لليهود. لذا بدا الصهاينة مُعجبين بصعود القوميّات العضويّة في أوروبا، خصوصا الألمانيّة والبولونيّة والأوكرانيّة، حيث القوميّة تَصنع الدولة، وفي المقابل تجاهلوا النموذج العكسيّ الذي تجسّده فرنسا، حيث الدولة تَخلق الأمّة في سياق التطوير والتحديث والتحرُّر الفرديّ، وانتهاج قيَم المُواطَنة والعدالة والتكافؤ، وغيرها من قيَم الحداثة السياسيّة.

وفي سياق تجربةٍ نادرة على صعيد بناء الدول، قامت دولة إسرائيل ككيانٍ استيطانيٍّ عنصري، تطبيقا للعقيدة الصهيونيّة التي نهضت على أساس أنّ سوء النيّة والعداء والتربُّص صفاتٌ أزليّة أصيلة في غير اليهود تدفعهم إلى الفتك باليهودي والتنكيل به، وبالتالي يُصبح حلّ معضلة الوجود اليهوديّ مكوَّناً من شقَّيْن: أوّلهما أن يتخلّى اليهوديّ عن موقفه المُسالِم، ليتسلَّح بالعنف، ويُبادِر به كنَوعٍ من الوقاية التي تقطع الطريق على محاولة الآخرين للسبق إلى اغتياله، وثانيهما أن ينفصل اليهوديّ عن المجتمعات غير اليهوديّة، ويتجمّع مع سائر اليهود في مكانٍ خاصّ. وبحسب الوعد التوراتيّ، تصير الأرض الفلسطينيّة هي المكان الطبيعي لهذا التجمُّع، ويصير استيطانها، بكلّ شراسة مُمكنة، هو غاية اليهوديّ ومغزى وجوده.

قبل قيام الحركة الصهيونيّة، كان اليهود قد تمتّعوا بوجودٍ سلميّ شبه دائم في الحضارة العربيّة، وبإسهامٍ عادلٍ في تطوّرها. وحتّى قيام دولة إسرائيل، كان اليهود التقليديّون موجودين في فلسطين، خصوصا القدس، دونما مشكلة، بل إنّهم كانوا أكثر وعيا بخطورة الصهيونيّة، وأكثر رفضا لها من عرب فلسطين أنفسهم. غير أنهّم انشقّوا مع إعلان الدولة بين تيّارَيْن: أوّلهما الحريدي / الأرثوذكسي الذي يمثِّل استمرارا لليهوديّة التقليديّة، ولكن على نحوٍ أكثر تشدُّدا وتمسُّكا بقوانين الشريعة (الهالاخاة)، حيث يرفض الحداثة، ويتحفّظ على الصهيونيّة العلمانيّة، بل يرفض وجود الدولة الإسرائيليّة نفسها، ويعتبرها عملا ضد إرادة الله، لأنها تتعجل الخلاص البشريّ فيما يرغب الحريديّون، في انتظار الخلاص الإلهي، بعودة المسيا. أما ثانيهما فهو الصهيونيّة اليهوديّة التي تمثِّل خليطا من وعيٍ تقليدي مُشبع بأساطير عن الاختيار العرقيّ وقداسة الشعب اليهوديّ، ومن وعي قوميّ ينشد التوسُّع والاستيطان، يَسند إلى الدولة الإسرائيليّة دَورا مسيانيّا / خلاصيّاً، ويَعتبر أن قيامها خطوة تسرِّع بعودة المسيا والتدخُّل الإلهي في التاريخ، وأنّ توسّعها في الأرض الموعودة علامة على التقدّم نحو الخلاص.

هكذا نَجد أنّ الصهيونيّة سلكتْ في ضديّة الاستنارة اليهوديّة، حتّى تمكّنت من هزيمة الهسكالا؛ إذ عَمدت أوّلاً: ليس إلى تجاوُز التاريخ الانعزاليّ لليهود، ولكن إلى توظيفه لمصلحة الاستثنائيّة اليهوديّة، فبدلا من محاولة تفتيت التناقُض اليهوديّ مع الأغيار في شتّى المُجتمعات، سَعت إلى تجميعِ هذا التناقُض ومَرْكَزَتِهِ في غيتو جديد، هو الأكبر في التاريخ، يهدف إلى بناء دولة يهوديّة لا تضمّ أيّة أغيار. ثانيا: ليس إلى استيعاب درس المحرقة النازيّة لليهود بتوقّي ظلم الآخرين، بل إلى السير على طريق النازيّ في التنكيل بهم، ومن ثمّ ربمّا نَجِدُ تفسيرا للعنف الإسرائيليّ المُطلَق ضدّ الفلسطينيّين. إنه الشعور التاريخي العميق بالقهر الذي لا يجد القاتل منه فكاكا، فيستمرّ في القتل كي لا يُقتل. ومع تزايُد ضحاياه، يتزايد خوفه من الثأر والانتقام، فيُمعِن في القتل.

وهكذا في مباراةٍ عبثيّة لا تنتهي، تتبدّى إسرائيل معها كمولودٍ تاريخي لقيط، أناني وسادي، تدفعه أنانيّته إلى القمع، وتزيد ساديّته من تَوقه إلى مُشاهدة روايته التاريخيّة مُعادَة ومُصوَّرة للغير أمام عينَيْه في دراما إنسانيّة، يزيد من مأساويّتها ويُعيد إنتاجها باستمرار هاجس الأمن وعقدة الخوف الذاتيّ التي غالبا ما تُصاحِب كلَّ كائنٍ لقيط لا يجد لنفسه صكوكَ نَسَبٍ إلى الزمن، حيث تصبح القوّة مع المُبالَغة في إظهارها هي صكّ النَّسب الوحيد إلى صيرورة الزمن، الأمر الذي يُحيل هذا الكائن اللّقيط إلى مُلاكمٍ في حَلبةٍ واسعة يُلاكِم من فوقها الجميع، حتّى في أوقات الراحة الفاصلة بين الجولات، وحتّى بعد نهاية المُباراة، خوفا من الهزيمة / العدم، ولو بدا انتصاره في الجولة السابقة واضحا، لأنه لا يثق، ولا يُمكن أن يَثق، لا في خصمه ولا في الحَكَم / التاريخ، ولا حتّى في قواعد اللّعب التي تجعله محدودا بزمنٍ لا بدّ أن ينقضي، وتلك هي معضلة السلام الكبرى مع ذلك الكيان الاستيطاني القلق.

*كاتب وباحث من مصر

*ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية