كتب الفيلسوف البريطاني برتراند راسل (1872-1970): «حينما لقيتُ لينين، كان انطباعي عنه كرجل عظيم أقلَّ بكثير مما توقعت، وأكثر انطباعاتي من هذا الاجتماع: حيوية التعصّب، والقساوة المغولية، وحينما عرضتُ عليه سؤالًا يتعلّق بالاشتراكية الزراعية، أوضح لي بجذل كيف أنَّه حرّض الفلاحين الفقراء على الأغنياء، فبادروا حالًا إلى شنقهم إلى أقرب شجرة، وجعل ضحكه الصارخ على فكرة أولئك القَتَلة دمي يجري باردًا في عروقي، إنني لأشكُ في أن يستطيع أي شخص أن يصبح قائدًا في أيام أهدأ من تلك الأيام، وسلطته ترتبط بالحقيقة التي مؤداها أنه في أمّة منهزمة ذاهلة، كان الوحيد تقريبًا الذي لم يخامره الشك وبسط آمالًا بنوع جديد من النصر».

كان انطباع الفيلسوف عن ثوري مثل لينين أنه لا يتمتع بصفات تجعله قائدًا في أيام تخلو من الاضطرابات، والجوع، والحرب، والتمزق الذي فتك بروسيا حينها، في الحرب العالمية الثانية (1914-1918)، وبدل أن يجيب عن سؤال متعلّق بالاقتصاد، صار يتبجّح بالدماء التي تسبب في إراقتها، هذا الانطباع هو نفسه الذي حمله الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين عن لينين، فقد وجه إليه سؤال يتعلّق بلينين، فقال: «إنه رجل ثورة، ليس رجل دولة، ولا بد من التفريق بين الوصفين»، يأتي هذا التفريق من رجل روسيا القوي الذي فهم أنَّ إدارة الدولة تتناقض مع تصوّرات الثوريين، الذين يحتكمون إلى الأيدولوجيا، بصورة تفوق مهاراتهم السياسية في تحقيق مصالح البلاد.

وفي المنطقة العربية تجاهل كثير من الكتّاب دور رجل الدولة حين كتبوا في التاريخ، وكان طمسهم لدور رجال الدولة لصالح شخصيّات أخرى لم يكن لها أن تحقق الكفاءة التي تميّز بها رجال الدولة، ففي الوقت الذي تم فيه نبش التاريخ لتمجيد شخصيات مثل سعيد بن جبير، وهو أحد الخارجين على الدولة الأموية في الكوفة، قبل أن يقتله الحجّاج بن يوسف الثقفي، جرى تقزيم الدور الكبير لرجال الدولة في زمنه مثل عبدالملك بن مروان، رغم أنَّه لا يوجد أيُّ دليل على أنَّ ابن جبير كان بمقدرته إدارة دولة بكفاءة عبدالملك ورجاله، فالإنجازات التي امتدت من إنشاء عملة عربية إسلامية، إلى تعريب الدواوين، وتوحيد الأقطار الإسلامية في دولة قويّة وإنهاء التمرّد والخروج المتكرر على الدولة، لم ترضِ أولئك الذين وجدوا في تاريخنا الإسلامي مختلف النماذج التي سعوا إلى تقديمها إلى الأجيال اللاحقة على أنها القدوة، ومضرب المثل، وهي تشترك في أنه لم يكن منها رجل دولة.

كذلك الحال حين تعرّض هؤلاء إلى التاريخ السعودي، فتم تسليط الضوء على الدعاة والعلماء وما كان لهم من أثر في تصحيح معتقدات الناس، وهو صحيح، لكنَّ هذا التناول للتاريخ السعودي كان فيه طمس لما في هذا التاريخ من دور رجال الدولة، كما كان عليه المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود (1953) رحمه الله، الذي استطاع أن يقيم دولة وسط جميع الأخطار التي هددتها، حتى أضحت مرهوبة الجانب، ذات ثقل سياسي عالمي، ولم يكن هذا الإغضاء عن دور رجل الدولة بريئًا دومًا، بل كان يعجب أولئك الذين يحاولون طمس الإنجازات التي حققها رجل الدولة، ليتم تصويرها على أنها مكتسبات دعاة وطلبة علم فحسب.

وكانت في هذه الطريقة في كتابة التاريخ رسالة موجّهة، بأنه في المستقبل يقع التغيير على عاتق من يتشبّهون بابن جبير، لا عبدالملك بن مروان، وأنَّ طلبة العلم يمكنهم أن يقيموا ما عجز عنه غيرهم، ولم يجد بعض كتّاب الإخوان أيَّ غضاضة من التعرّض للتاريخ السعودي بهذه الطريقة، ليقولوا ضمنًا إنَّ مجموعات من الدعاة يمكنها أن تشكّل بديلًا عن سياسيي العالَم، لكنَّ التاريخ لا يسعف هذا التصوّر، فبعد الدولة السعودية الأولى، لم يكن بإمكان غير رجال الدولة من طلبة العلم والدعاة أن يسترجعوا ما هدّمته الجيوش الغازية، ولم يكن من بينهم من يستطيع أن ينجز ما أنجزه عبدالعزيز آل سعود لاحقًا، وهكذا فإنَّ درس التاريخ يظهر كلَّ مرة أنَّه مهما حاول الكتّاب، والمؤرخون تجاوز دور رجل الدولة في التاريخ، ونسبة فضل إنجازاته إلى غيره، إلا أنَّ المنجزات السياسية تبقى ملتصقة برجال الدولة، ولا يمكن لغيرهم أن يحل محلهم في تفسير حدوثها.