أذكر في يومٍ من أيام رمضان فتحتُ التلفزيون بعد أن أفطر الناسُ؛ لأنتظر (طاش ما طاش) فإذا بالشيخ علي الطنطاوي يتحدث ببرنامجه (على مائدة الإفطار) عن امرأةٍ عجيبة؛ اسمها (هيلين كيلر)؛ فقدَت السمع والبصر وعمرها سنة ونصف تقريبًا، ومع ذلك كتبت كما لو أنَّها امتلأت بأسبابِ الحياةِ الطبيعية.

انحفرت هيلين في ذاكرتِي، ثم اختبأت في دهاليز الدماغِ الغامضة؛ وها هو الدماغُ يُعيدها لي، لمّا هممتُ بالتفكير في مجاهيل الإبداع؛ كأنَّه يقول لي: «هيلين نموذج فريد في معنى (الكتابة العمياء)» والعمى هنا يُراد به تحديد درجةِ الإبداع ومصدره؛ فإذا كانت هيلين لا تسمع ولا ترى، فإنَّ مصدرها الكتابيّ هو (اللمس)، تلك الحاسةُ التي فاقت الحواسَّ كلها، وربما -لبيان ذلك- نحتاج أن نستعيد رؤية الفيلسوف كوندياك، الذي اختلف مع جون لوك وبالغ في الانحياز للحواسّ؛ فإذا كان جون لوك قال إن العقل ينقسم إلى قسمين: أفكار بسيطة تنشأ عن الحواس، وأفكار مركبة تنشأ عن تجمع الأفكار البسيطة، فإنَّ كوندياك يرى أنَّ حتى الأفكار المركبة هي مجموعة أحاسيس؛ وأهم مصدر لهذه الأحاسيس هو اللمس، فالحواس الأربع لا تستطيع أن تثبت لنا وجود عالم خارجي إلا بمساعدة حاسة اللمس؛ ويمكن لنا أن نتخيل شخصًا داخل تمثالٍ رخامي؛ كسرنا منه موضعَ الأنف، فأصبحت حاسة (الشم) هي مصدره الوحيد للمعرفة، ثم عرضنا على أنفِه (وردة)، فأصبحت الوردةُ كلَّ شعوره ومعرفته، فذهبت الرائحةُ إلى الذاكرةِ، ثم عرضنا عليه (دخان مسدس)، فبدأت لديه عملية المقارنة بين ذاكرة الوردة، والرائحة التي يشمّها الآن، وهذه العملية تصنع من هذا الشخص حاكمًا بين الجيد والسيئ، ثم إذا تكررت الروائح وتكرر الحكم، تطور من حاكمٍ بسيطٍ، إلى حاكم مستدلّ؛ أي أنه يحمل في جعبتِه الأدلةَ على صحةِ أحكامه. ثم لو عرضنا عليه رائحةً كريهةً تَفجَع الدماغَ، فإنَّه سيشعر بالألم، وسيتذكّر رائحةَ الوردة ليستعيد اللذة وينسى الألم، وهذا ما يصنع عنده مفهوم (التخيل)، ومفهوم (الإرادة)؛ لأنه وهو منفعل بإحساس الألم أراد أن يُعيد الوردةَ؛ فتخيّلها، فزال الألم، وهذه الإرادة تتحول من مجرد (حاجة) إلى (شهوة)، أي اشتهاء الاستعادة حتى لو لم يكن هناك ألم، وهذه الشهوة تُنتج إرادةَ الحب، أو الكره، أو الخوف، أو الرجاء، ثم إذا بلغ شهوتَه يُصدر حكمًا مفاده: «لن يقف شيءٌ في طريقِ شهوتي». ونلاحظ أنَّ الشخصَ من خلال أنفِه أدرك معنى (العدد)؛ إذ يُعرض عليه وردة ثم دخان مسدسٍ، وأدرك معنى (الممكن)؛ لأنه ألغى من ذهنِه رائحةَ الدخان، واستعادَ رائحة الوردة، وأدرك معنى (الزمان)؛ لأنَّ الروائحَ تعاقبت عليه، وأدرك معنى (الشخصية)؛ لأنه يتذكر جملة الإحساسات التي انفعل بها.

كل ما جرى كان عن طريق الشمّ فقط، وهي الحاسة التي يَعدّها كوندياك أدنى مراتب الحواسّ، فكيف بالأعلى منها؟! هنا نصل لنقطةٍ ستحدد أهميةَ اللمس، فجون لوك يضرب مثالا بأنَّ الإنسانَ الأكمه (المولد أعمى) لو أبصر؛ لن يُميّز بين شيءٍ مكوّر، وشيءٍ مكعب كان يُدركهما بحاسةِ اللمس، وبإمكانه -فيما بعد- أن يتخلى عن حاسةِ اللمس ويكتفي بالنظر إلى المكور والمكعب. من هنا رأى كوندياك أنَّ اللمس هو الذي يثبت ما نتلقاه عن البصر، وأهمها وجود العالم الخارجي. وكأنَّ كوندياك يستحضر هيلين كيلر؛ فهي استخدمت اللمسَ لتكون أديبة، تؤلف وتبدع، واللمس هو الحاسة الوحيدة التي تخلق في الإنسان أفعالا متقارنة في آنٍ واحد، فممكن -من جراء اللمس- أن يُحسَّ ببرودةٍ في اليد اليمنى وحرارة في اليسرى، وصداع في الرأس، وهذا التقارن الذاتي يعده كوندياك غامضًا؛ لأنه يُقارن ذاتَه بذاتِه دون الحاجة إلى مؤثر خارجٍ عنه؛ أما الحواس الأربع الأخرى فيقع عليها مؤثر خارجي.

وعلاقة اللمس بالإبداع متعلقة بهذه المقارنة الذاتية، التي تصنع مجدها من داخلها، وهو سر أن تكون هيلين عجيبة، فهي لم ترصد الأشياء بدقة متناهية إلا لكونها لا تسمع ولا ترى، إنها تدخل سراديب الحياة بوعي العمى الكلي، فتبصِر مالا يُبصَر، وهو معنى المقاومة الذاتية التي نشأت من اضطرابِ اجتماع البرودة بيد، والحرارة بيد، والصداع في آن واحد، ومن هنا نشأ مفهوم (النفس)، لأنَّ الحواس بعد أن تتعرف على جسدها، تثبت النفسَ حين أدركت شيئًا خارجًا عنها من خلال ذاتها. والأهم -في سياقنا الكتابي- أنه سيدعونا لتأمل (الألفاظ ومعانيها) في حالةٍ ملموسة، كأنها تُفهَم بناءً على لمسها، بل تَصنع معنى مختلفًا لمفهوم الكتابة، وهو ما أسميته (الكتابة العمياء) وسيدعونا لتأمل علاقة العشق باللمس.

وأختم بحكايةٍ لهيلين حين كانت على سرير المرض، تقول: «زارتني صديقتي العزيزة -بعد أن عادت من جولتِها الطويلة في إحدى الغابات- فسألتُها: ماذا لاحظتي في الغابة؟ فأجابت ببرودِ: لا شيءَ يُذكر». هذه الحكاية لم تكن عابرة في حياة هيلين بل ولِدَت من رَحِمها مقولتُها: «إنَّ المبصرَ لا يرى إلا قليلا». الغابة في حكاية هيلين موغلة في رمزية الحياة، وكأنها رمز إبصار الحكاية، حكاية الأشياء؛ لهذا هل النفس التي خُلقت في هيلين من جراء اللمس تدلنا على طريقٍ آخر يكشف العالم كما هو، لا كما يظهر لنا؟ هل يذكرنا هذا بسؤال: ما الفرق بين روايةٍ مكتوبة على الورق، والرواية ذاتها مصورة سينمائيًا؟ ما الذي لا يبصره المبصرون في الرواية المكتوبة؟ الرواية مكتوبة تخلق أعينًا مغايرة، لهذا فإنَّ المبصرين يظنون أنَّ السينما تُغنيهم عن المكتوب، ومع كلِ رواية تُصوَّر تحضر مقولةُ هيلين: «إنَّ المبصرَ لا يرى إلا قليلا»؛ فكن أعمى لتبصر المكتوب بوعي لا يشبه العالم الظاهر.