في الجامعات الغربية لا يوجد منبر داخل التخصصات العلمية يمكن مقارنته بمشروع التأريخ الهندي، المعروف باسم «سبالترن»، الذي يسمح بسرد رواية التاريخ من وجهة نظر مختلفة.

بهذه النظرة، يقتحم أستاذ الدراسات الدينية رئيس القسم بجامعة إستيرلينج الأسكتلندية«كيت وايتلام» مقاربته للتاريخ الفلسطيني من خلال كتابه «اختلاق إسرائيل القديمة.. إسكات التاريخ الفلسطيني»، ذاهبا إلى أن مسألة تحديد موقع للدراسات الفلسطينية يظل شيئا في غاية الأهمية، إذ لا يُسمح للتاريخ الفلسطيني بأن يسرد وجهة نظره ضمن أقسام التاريخ في الجامعات الغربية ، وأن إنجاز هذه المهمة بجدية كافية هو وحده الذي سيجعل من الممكن انتزاع التاريخ الفلسطيني، وتحريره من قبضة المصالح التي أسهمت في إسكاته طوال هذه المدة الطويلة من الزمن.

اكتشاف التراث الحضاري

يرى «وايتلام» أنه حتى نتمكن من تحقيق هذه الفكرة سيكون من المحتم التحرر من قبضة وقيود الدراسات التوراتية، ومن ثم المطالبة بموقع للتاريخ الفلسطيني ضمن الخطاب الأكاديمي في أقسام التاريخ، الذي تجاهل هذا التاريخ على أساس أنه جزء من تاريخ إسرائيل القديمة المستند إلى التوراة. كما يرى «وايتلام» أن «التحدي الرئيس يظل في إعادة اكتشاف التراث الحضاري والثقافي والفني لفلسطين القديمة، الذي نشهده من خلال النصوص المكتوبة وأشكال التراث الأخرى، ومنها التوراة العبرية والأواني الفخارية والمصنوعات اليدوية والأبنية التذكارية والآثار المادية، وهذه كلها تشهد على منجزات سكان فلسطين. وهذه بالتأكيد، فكرة تستحق السعي وراءها».

حرمان التاريخ الفلسطيني

يؤكد الكتاب الذي يرتكز معظمه على تسليط الضوء على أعمال الباحثين التوراتيين ، وتضمين اقوالهم كما وردت على السنتهم، أن الدراسات اللاهوتية والدينية من خلال خطاب الدراسات التوراتية استأثرت بحق تمثيل التاريخ الفلسطيني القديم في فترة العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي وفترات أخرى كثيرة غيرها. ولقد كان ذلك استمرارا لحق ادعاه الرحالة الأوروبيون خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وخلال هذين القرنين أيضا، أصبح التاريخ الفلسطيني أحد التواريخ الكثيرة «المستبعدة» من التاريخ جراء التسلط الذي مارسه المتخصصون في الدراسات التوراتية والمؤرخون وعلماء الآثار على تاريخ فلسطين والشرق الأدنى، وكانت نتيجة ذلك حرمان التاريخ الفلسطيني من مكان خاص به في الخطاب الأكاديمي الغربي. وتزامن اهتمام أوروبا الإستراتيجي بفلسطين مع سعيها لمعرفة جذور حضارتها كما حددتها إسرائيل القديمة والتوراة.

وبقبول المتخصصين التوراتيين بشكل عام بتصور الماضي كما جاء في التراث التوراتي، فقد بدأوا بالبحث عن الوجود المادي لإسرائيل من خلال الآثار والمباني الباقية في تلك الأرض، فكان ما وجدوه، أو ما كانوا ميالين إلى أن يجدوه، هو إسرائيل شبيهة بدولهم القومية.

صعود الحركة الصهيونية

يوضح الكتاب كيف أن الدراسات الأكاديمية في الجامعات الغربية صُورت إسرائيل بأنها دولة ناشئة، بحيث تبحث عن وطن قومي تستطيع أن تعبر فيه عن وعيها القومي. وفي القرن العشرين، هيمن هذا الإسقاط لإسرائيل القديمة على فترة العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي. وقد ازدادت أهمية هذا التمثيل للماضي، وأصبح أكثر نفوذا مع صعود الحركة الصهيونية التي هي في جوهرها مشروع أوروبي، وكان تاريخها يُنظر إليه على أنه مرآة عاكسة لغزو إسرائيل القديمة الأرض الذي أعقبه إنشاء دولة قومية تمكنت بسرعة من السيطرة على المنطقة.

ويقول «وايتلام»: «بشكل عام، فإن ما نراه هنا هو رواية أصلها star narrative الاجتماعي والسياسي الذي انبثقت منه الدراسات التوراتية حديثا»، متناولا تأثير ذلك على دراسة إسرائيل القديمة، وإسكات التاريخ الفلسطيني في الفصل الأول من الكتاب.

أما استكشاف الميدان السياسي، الذي تقدمت فيه تلك الدراسات التوراتية، فهو ليس مفهوما بما فيه الكفاية، أو حتى معترفا به - بحسب وايتلام - الذي يصفه بأنه «اهتمام لا يزال في بداياته الأولى».

أما الجوهر الأساسي لمضمون الكتاب فهو «محاولة لتفصيل تأثيرات التغيرات العميقة التي شهدتها الدراسات التوراتية خلال العقدين الأخيرين أو أكثر في البحث التاريخي»، فالتقارب القوي بين الأعمال الأدبية للنصوص التوراتية قد تحالف مع اتجاهات اجتماعية علمية، لإنشاء التاريخ الإسرائيلي، وأدى إلى ما يمكن تسميته تحولا أو تغييرا كبيرا في النموذج paradigm shift في دراسة التوراة العبرية. غير أن هذا التحول يبدو ظاهريا أكثر من كونه حقيقيا فيما يتعلق بتمثيل التاريخ الإسرائيلي القديم، أو بإدراك التاريخ الفلسطيني القديم.

وفي مناقشة هذا التحول، من المعتاد التركيز على التاريخ الروائي للتوراة العبرية، وما له من تأثير في الدراسات التوراتية.

نافذة تلهب الخيال

ينتقد الكتاب أحد الأكاديميين العاملين في هذا الحقل، وهو نورث Noth، الذي يرى تواصلا بين الماضي والحاضر يربط بين دولة إسرائيل الحديثة وبحثه عن التاريخ القديم لإسرائيل. ويقول عنه: «على الرغم من أنه يدعي أنه من غير الملائم أن يوسع دائرة بحثه بشكل متواصل من الماضي إلى الحاضر، فإنه لا يعترف بأن وجود الدولة القومية نفسه في الوقت الحاضر هو الذي شكّل كثيرا من افتراضات البحث التاريخي في هذا المجال».

إن الافتراض السائد بوجود صلة مباشرة بين إسرائيل القديمة والدولة الإسرائيلية الحديثة ـ الذي تلخص، في اعتقاده، بعودة هذا الشعب إلى وطنه في أرض إسرائيل القديمة - هو الذي يحدد مسبقا نتيجة البحث. إن اختيار تعبير «الوطن» homeland له دلالات مهمة في سياق «وعد بلفور» الذي وعد اليهود بوطن طبيعي (natural home) في فلسطين. وكذلك، فإن الاهتمام الهائل بالبحث عن جذور إسرائيل القديمة، لإضفاء الشرعية على الدولة الحديثة، هو الذي يسيطر على الخطاب التاريخي ويُسكت البحث عن تاريخ أعم للمنطقة.

«راضٍ عن هذه التواريخ» (يقصد التاريخ لوقت طويل جدا ).. إن أعمال بروديل، التي تحتل مكانة السيادة والمليئة ببصيرة نافذة تلهب الخيال، قد علمتني أن هناك عدة مظاهر للتاريخ لم تخاطبها تواريخنا السياسية واللاهوتية، وهذا هو ما ألهب خيالي لكي اضطلع بهذا المشروع الضخم في محاولة كتابة تاريخ فلسطين القديم، ولكنني لم أر الصعاب الكامنة التي واجهت هذا المشروع إلا بالتدريج، وهذه الصعاب كانت بحاجة إلى أن تربط بالسياق السياسي والاجتماعي الأوسع لعلوم القرن العشرين.

الوقائع المادية

إن تاريخ فلسطين، وقد نقول التاريخ القديم بشكل عام، يهيمن عليه النمو أو التناقص السكاني (الديموغرافي) مقترنا بالتوسع والانكماش الاقتصادي والتجاري. وإذا لم نفهم هاتين الدعامتين (الركيزتين) المتلازمتين للمجتمع القديم، أي السكان والاقتصاد، أو العوامل المؤثرة فيهما، فلن يكون بإمكاننا فهم هذا التاريخ، فالعديد من المعلومات التي تتعلق بهذه المجالات لا تزال غير منشورة، ما يعيق استكمال البحث.

غير أن شبكة العلاقات المسيطرة على هذه الأبحاث العلمية هي التي تشكل العائق الأكبر. في الماضي، تم تجاهل العديد من هذه الأفكار، خاصة في التواريخ التوراتية، ليس فقط لأن المعلومات كانت ناقصة، ولكن السبب الأهم هو الاعتقاد السائد بأن هذه المعلومات غير مهمة. لقد حالت العوامل الثقافية والسياسية، التي هيمنت على خطاب الدراسات التوراتية في دراسة تاريخ إسرائيل القديم، دون تطوير إستراتيجية للتحقيق في هذه القضايا. وما يدعو إلى السخرية أن العديد من أعمال التنقيب الأثرية والاستطلاعات المحلية ومواقع التنقيب، التي أدت إلى هذا التحول في النموذج، تهيمن عليها فكرة البحث عن إسرائيل القديمة، وعن الوقائع المادية التي يفترض أنها سوف تلقي الأضواء على التوراة العبرية، لذلك من المهم تحديد مفهوم دقيق وواضح لتاريخ فلسطين، ومن ثم تخطيط إستراتيجيات للبحث عن هذا التاريخ.

العلاقة التاريخية

في 1996، عندما سئل إدوارد سعيد عن أفضل كتاب قرأه، أوضح أنه كتاب كيث وايتلام «اختلاق إسرائيل القديمة». وقال عن الكتاب إنه عمل أكاديمي من الطراز الأول، وكاتبه يتمتع بجرأة كبيرة في نقده العديد من الفرضيات حول تاريخ إسرائيل التوراتي.

ومن أهم النتائج التي يصل إليها هذا الكتاب المهم - الذي نقلته للعربية الدكتورة سحر الهنيدي - أنه يقلب صورة العلاقة التاريخية بين اليهود والفلسطينيين القدماء رأسا على عقب. فبعد أن كان الباحثون الذين زيفوا تاريخ تلك الفترة، لخدمة مصالح سياسية تتعلق بأحداث التاريخ المعاصر، يسكتون تماما عن التاريخ الفلسطيني القديم، ولا يتناولونه إلا بقدر ارتباطه بدولة إسرائيل القديمة التي اختلقوها ومهدوا لها، أكد «وايتلام» أن التاريخ اليهودي القديم هو مجرد جزء من التاريخ الكنعاني أو الفلسطيني القديم، وينتهي إلى ضرورة إحياء هذا التاريخ ودراسته، بوصفه موضوعا قائما بذاته، لا مجرد إطار للسياق الذي ظهرت فيه مملكة إسرائيل القديمة التي يشكك المؤلف في وجودها أصلا، ويراها مجرد اختلاق قام به باحثون مغرضون تحركهم دوافع سياسية ومصالح تتعلق بالأوضاع الحاضرة.

الكتاب يهم دارسي التاريخ والدراسات الدينية وعلماء الاجتماع والمهتمين بالسياسة المعاصرة في الشرق الأوسط، وكل المهتمين بالتاريخ القديم لفلسطين وإسرائيل.