يبقى موضوع العلمانية على المستوى العربي في غاية الحساسية، وتبقى قضية طرحه ودراسته دراسة عميقة ومستفيضة وشاملة مسألة ينبغي أن تأخذ موقعها المتقدم في أولويات البحث والطرح العلمي.

ذلك أن العلمانية بصورتها الحقيقية نتاج غربي، ما يستوجب دراسة هذا الفكر داخل بيئاته بصورة عميقة وشاملة، للوقوف على حقيقته، وتتبع هذا الفكر في تشعباته وتحولاته العالمية، فالعالم الذي يتمثل العلمانية الشاملة يشمل رقعة جغرافية واسعة من العالم، والعالم الذي يتمثل العلمانية الجزئية يشمل جزءا من العالم الإسلامي والعربي.

هذا الانتشار الجغرافي الواسع للعلمانية يحيلنا إلى رصدها، وتتبع مساراتها وتحولاتها.

لنحاول الاقتراب من هذا الموضوع المتشعب والمعقد اقترابا عقلانيا من منظور نظري، ونحاول إسقاط الفكرة على البُعد الفردي ما أمكن، إذ إن البُعد التنظيمي أو البُعد الجماعي لا وجود له على الإطلاق على مستوى المجتمعات العربية، وإن كان له وجود على مستوى الأفكار على الرغم من أن الأفكار التي تدفع إلى العلمانية مجرد تنظيرات لا تتفاعل مع الواقع العربي، ولا تصيب المجتمعات العربية بشيء.

يتقاطع في مجتمعاتنا العربية طريقان بمنهج التفكير فيما يتعلق بالطرف الآخر الغرب أو العلمانية، فهناك طريق في التفكير يقوم على إلغاء الآخر، فكرا ومنهجا، عند توافر الإمكانات لإلغائه، والنظر إليه على أنه لا يمثل حالة شرعية أو ثقافية، ولعل هذا الفهم يأتي من خلال الخلط ما بين الاعتراف بالآخر كواقع والاعتراف بشرعيته وثقافته ومكتسباته الفكرية، أو ما يمثل من مرتكزات حضارية وإنسانية، وهذا التيار لا يعترف بالآخر وثقافته لغة وإصطلاحا وواقعا.

أما الطريق الآخر في التفكير فيقع في عقدة استرضاء الآخر ضمن رؤية تفتقد التوازن والتكافؤ والندية في محاولة للهث وراء الآخر، لإرضائه على خط التبعية.

وإن كانت المجتمعات الإنسانية بشكل عام عرفت نموذجين من العلمانية:

نموذج العلمانية غير المعادية للدين ولا المتداخلة في المجالات والمسلكيات الدينية.

نموذج العلمانية المتطرفة السالكة مسلكا عنيفا وتصعيديا في مواجهة الدين.

فإن النموذج الأول يتركز في معظم دول الغرب الصناعي عدا فرنسا، ويقوم على احترام الدين، وعدم التدخل في العقائد والحريات الدينية، والتسامح مع المظاهر الدينية في الحياة العامة أو السياسية، والسماح بتشكيل الأحزاب السياسية على المبادئ الديمقراطية المسيحية في أوروبا.

أما النموذج الثاني للعلمانية فمتطرف ومصادم للدين كالنموذج الفرنسي أو النموذج السوفيتي - الشيوعي سابقا. وقد تأثر الفكر العلماني الكمالي التركي بهذا النموذج، وإن كان على الجهة المقابلة نشهد حركة رفض صامتة ومعلنة أحيانا ضد النموذج العلماني الجذري في تركيا، حيث تتجه قطاعات شعبية واسعة نحو مظاهر التعبير الإسلامي.

ولقد تشكل وعي النخب العلمانية العربية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر بتأثير متفاوت للفكر العلماني الأوروبي والأطلسي، ولكن ليست هذه العلاقة بالنموذجين قاطعة في التمايز والمفاصلة، وإنما يحدث أن يتخلل الواحد منهما بعض ملامح الثاني.

ولكن مؤكد أن المجتمعات العربية ليست معزولة عن تأثير التيارات القادمة من خارج إطار العالم العربي، ما يجعل التأثيرات العلمانية حالة لا يمكن تجاهلها، ولكننا إذا أمعنا النظر نجد أن المجتمعات العربية قد احتفظت بقدر من الاستقلال على مستوى منظوماتها الرمزية والقيمية، ما يجعل من المبالغة القول بأن العلمانية قد فرضت نفسها كخيار واقع أو كخيار مستقبلي.

ولكن من ناحية التشخيص الموضوعي، نجد أن التحديث، وليس العلمنة، فرض نفسه خلال القرنين الأخيرين، ونراه يسير في اتجاه تراكمي وتصاعدي. وقد لاحظ أحد المفكرين الإنجليزيين عدم التساوق بين التحديث والعلمنة حتى لو فرضت العلمنة نفسها على العالم، بما في ذلك الفضاءات الدينية الكبرى، إلا أن الإسلام يمثل استثناءً.

علينا أن نكون على إيمان كامل بالحق والحق الآخر، فالحقيقة هي مجموع ما لدى الجميع، والانفتاح العقلي على الأفكار والجرأة على تجاوز المنعطفات الحادة. وإن كانت مفردة العلمنة لا تزال غير متبلورة، فإنها تتجاذب الجيل الجديد المنفتح على التحولات الثقافية والفكرية الجديدة، وعلى فكر العولمة ونتاجها العلمي والمعرفي، وإن كان مفهوم العلمنة مفهوم شائك ومتلون، ويكتنفه الكثير من الغموض، ومرد ذلك إلى اختلاف معناه باختلاف البيئة والسياق الذي يستخدم فيه، والمراحل التاريخية والسياسية والاجتماعية التي تطور فيها ومعها.

وعلى الرغم من أن فكرة العلمانية فكرة غربية المنشأ والأسباب، وبدأت وترعرعت في تلك البيئة، وأخذت أبعادها الفكرية والاجتماعية والسياسية من واقعها الذي نشأت فيه، وتلك الأسباب والمبررات التي أدت إلى نشأتها غير موجودة في العالم العربي والإسلامي، فإنها انتقلت - فكرة ومنهجا - من العالم الغربي إلى مجتمعاتنا بسبب الاحتكاك المباشر لكثير من المثقفين والدارسين الذين عاشوا فترات متفاوتة من حياتهم في تلك البيئات الغربية، وانبهروا بثورة التقنية الغربية التي بدأت طلائعها في تلك الفترة، وافتتنوا بالتحولات والآليات والإجراءات الجديدة.