وسط ترقب كبير من الأوساط القانونية والسياسية وحتى الرأي العام في جميع دول العالم، تبدأ محكمة العدل الدولية في لاهاي خلال الفترة من 11 - 12 يناير الجاري النظر في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي بتهمة ارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين المدنيين في قطاع غزة تندرج تحت تهمة الإبادة الجماعية، وهي الدعوى التي أربكت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ودفعتها لمحاولة اتخاذ إجراءات استباقية للحكم الذي يرجح غالبية الخبراء القانونيين أن يصب في صالح الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لأبشع أنواع الاعتداءات.

بدءًا الوصف القانوني لجريمة الإبادة الجماعية، طبقًا لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، يشمل «أيا من الأفعال المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو دينية، وهذه الأفعال تشمل قتل أعضاء من الجماعة، وإلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضائها، وإخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيًا، وفرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، ونقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى»، وكل تلك الانتهاكات ارتكبتها تل أبيب في غزة. قد يرى البعض أن حكم المحكمة ربما لا تكون له آثار فعلية على إيقاف المجازر اليومية التي يتعرض لها الفلسطينيون، وأن تل أبيب يمكن أن ترفض الالتزام به، وهذا ربما يكون صحيحا من الناحية النظرية، لكن الخطورة التي تواجهها دولة الفصل العنصري تتمثل في أنه حتى إذا رفضت إسرائيل تنفيذ القرار، أو استخدمت الولايات المتحدة حق النقض لوقف تمريره في مجلس الأمن، فإن جنوب أفريقيا تستطيع في هذه الحالة أن ترفع الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتنفيذه بموجب قرار «الاتحاد من أجل السلام».

هذا الوضع يتضمن أيضًا - من الناحية القانونية - إيقاع المزيد من العقوبات الوخيمة بحق الطرف المدان، لأن الجمعية العامة للأمم المتحدة تستطيع تعليق جميع أنشطة إسرائيل ومشاركتها، وهو ما فعلته بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ويوغسلافيا اللتين أدانتهما من قبل بتهمة الإبادة الجماعية. كما يمكن للجمعية إصدار قرار إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة بإسرائيل كما فعلت من قبل مع يوغسلافيا بموجب المادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة.

كذلك لا بد من التنويه إلى الفرق الكبير بين محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية رغم أن اختصاصهما قد يبدو في الظاهر واحدًا، كما أن مقريهما يقعان في لاهاي، فالأولى تمثّل الهيئة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، وتنظر في المنازعات القانونية المقدمة من الدول وفقًا للقانون الدولي، وتختص بإصدار الفتاوى القانونية المحالة إليها من الهيئات الأممية ووكالاتها المتخصصة. في المقابل فإن المحكمة الجنائية تختص بمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وهي ليست جزءًا من الأمم المتحدة.

وأكثر ما تخشاه دولة الاحتلال الإسرائيلي هو أن الملف الذي قدمته جنوب أفريقيا جاء وافيًا وشاملًا بصورة مذهلة، حيث تضمن توجيه أربع تهم رئيسية، أولها هي الإبادة الجماعية، بدليل مقتل ما يزيد على 23 ألف فلسطيني حتى الآن وهو ما يزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف على عدد الذين قتلوا في مذبحة سربرنيتسا في البوسنة والذين لم يتجاوزوا 7 آلاف مسلم.

كما تضمن الملف تهمة التسبّب في ضرر جسدي أو عقلي خطير، وقد فاق عدد الجرحى في قطاع غزة 50 ألف فلسطيني. إضافة إلى التهمة الثالثة المتعلقة بإرغام الأشخاص على العيش في أوضاع معيشية تدمرهم كليًا أو جزئيًا، مستدلًا بتصريحات وزراء إسرئيليين عن منع الطعام والماء والإمدادات الطبية والوقود عن سكان القطاع والدعوة لإبادتهم وقصفهم بقنبلة نووية. كما تضمن الملف تهمة منع النساء الحوامل من الوصول لمراكز صحية ملائمة، وقد رأى العالم أجمع كيف تستهدف قوات الاحتلال المستشفيات وتقتل الأطباء وتتعمد قصف سيارات الإسعاف.

هذا التكامل في الملف تسبب في تزايد مخاوف إسرائيل من الآثار المحتملة للقرار، فرغم أنها استبقت الجلسات وأكدت عدم التزامها بأي قرار لإيقاف الحرب، لكنها تخشى على مسؤوليها وضباطها وجنودها من السفر إلى أي من الدول الموقعة على ميثاق محكمة العدل الدولية. كما أنها طبقًا للمادة السادسة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.فإنه لا تعتبر هذه الجريمة من الجرائم السياسية على صعيد تسليم المجرمين.

لذلك سارعت إلى حذف التصريحات التي أطلقها كثير من قادتها عند انطلاق الحرب، وفي مقدمتهم الرئيس إسحاق هرتسوغ ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن يوآف غالانت وكثير من الوزراء مثل وزير البنية التحتية والطاقة الذي أعلن فرض حصار شامل على القطاع في اليوم الثاني للحرب، ووزير المالية الذي دعا لقصف غزة بقنبلة نووية، وبدأت الترويج لأكذوبة أن تلك التصريحات قد فُسرت عن طريق الخطأ وأن من أطلقوها لم يكونوا يقصدون ما تحدثوا به.

نعم، ربما لا تستطيع محكمة العدل الدولية تنفيذ أحكامها، لكن أعضاء الأمم المتحدة يمكنهم بالتأكيد قبول نتائجها التي حتمًا ستكون لها تداعيات مختلفة، وإسرائيل التي تعد إحدى الدول الموقعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية تخضع لولاية محكمة العدل الدولية، وسوف يصبح من الصعب عليها أن تتجاهل أي نتيجة سلبية. لذلك فإن موقف دولة الاحتلال بالغ السوء لا سيما في ظل تهافت حجتها الأساسية بالدفاع عن النفس التي رفضتها المحكمة الدولية في وقت سابق وأكدت أنها «المحتل المحارب، وليس لديها الحق في الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي أو المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة ضد شعب محتل».