مع شروع قضاة محكمة العدل الدولية مداولاتهم بدأ رهان وعد عكسي ورهان كبير لدى الشعب الفلسطيني وشعوب العالم في انتظار «القرار العاجل» المتوقع أن يتوصلوا إليه في غضون ثلاثة أسابيع على الأكثر، وهي مدة طويلة جداً بمقاييس الدم والمعاناة، على أمل أن يفيد القرار في وقف المقتلة المستمرة. ينبغي ألا يغيب عن بال القضاة أن كل يوم يمر منذ الآن يعني في الأقل 100 إلى 150 ضحية عدا الجرحى من المدنيين، ولا بد لهم أن يتذكروا الـ100 ألف من الضحايا والمفقودين والجرحى الذين سقطوا خلال 100 يوم من الحرب، وألا ينسوا أن 70% منهم أطفال ونساء. وإذا كان اتفاق منع الإبادة الجماعية يتيح المحاسبة على «نية الإبادة» إنصافاً للضحايا، فهل أن في الفقه القانوني ما يسمح بأن تؤخذ في الاعتبار «الإبادة اللاحقة» ومحاسبة مرتكبيها لأنهم تسببوا ويتسببون بموت بطيء للأحياء الذين يعانون ندرة الغذاء والدواء وينال منهم تفشي الأوبئة والأمراض وبرد الشتاء.

برهنت جنوب إفريقيا أنها، بذهابها إلى محكمة العدل الدولية، لم تنس دروس تجربتها الطويلة القاسية مع نظام الفصل العنصري، وتعلمت منها أن يبقى ضميرها حياً أياً تكن اعتبارات السياسة وانحرافات النظام العالمي. لم يؤهلها ذلك لأن تقدم «قضية فلسطين» من خلال «قضية غزة» على نحو غير مسبوق فحسب، بل أهلها خصوصاً لأن تمتحن الضمير العالمي أخيراً وتتحداه بسيل من الأسئلة المصيرية: هل بقي شيء اسمه «عدل» في عالمنا، وهل يراد أن يكون هناك عدل أم لا؟ وهل يسمح لمحكمة لاهاي بأن تنجح في الاختبار أم تلتحق بمسلسل الفشل الذي قوض هيبة مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة؟ كان لافتاً يوم تقديم لائحة الاتهام الجنوب إفريقية أن تشير تعليقات كثيرة إلى أن هذه المحكمة لا تزال لها صدقية وإن لم تكن لديها صلاحيات عقابية، على عكس المحكمة الجنائية الدولية التي تتمتع بصلاحيات محاسبة لكن تفعيلها يمر بانقسامات مجلس الأمن وفيتواته كما يتوقف على من يتولى الادعاء العام فيها، والمدعي العام الحالي باتت استقلاليته موضع شك.

بدا الفريق القانوني لإسرائيل مسلماً بأنه خاسر الجولة الأولى في لاهاي، تماماً مثلما أن إسرائيل العسكرية خسرت الحرب، وفقاً لمحلليها الجديين، لحظة نجحت مفاجأة «طوفان الأقصى»، بيد أن هذا الفريق يراهن على أن إسرائيل لن تخسر الجولة الثانية، التي سيحرص على أن تستغرق سنوات، فمن الأهمية المحسومة لديه ألا تدان إسرائيل من هذه المحكمة تحديداً، ومن الأهم ألا توصم بـ«الإبادة الجماعية» وبموجب اتفاق 1948 الذي يؤرخ أيضاً لسنة إنشائها كـ«دولة» وجرى صوغه في ضوء «المحرقة النازية» وعلى أساس أن اليهود استحقوا تلك «الدولة» لأنهم كانوا ضحية أكبر وأوسع عملية إبادة جماعية في العصر الحديث، ولا يقبلون أن يفكر أحد في استخدام مصطلح «الإبادة» أو «الهولوكوست» في وصف أي حدث مشابه أو يتعرض له الفلسطينيون، حتى لو كانت إسرائيل الطرف الذي يقتلهم. وعندما صدمهم هجوم «حماس» في «7 تشرين» أعادوا «المحرقة النازية» إلى الواجهة وتذكروا أنه جرى تعويضها بالنكبة الفلسطينية الأولى، لذا خططوا- بحسب الوزير آفي ديختر وزرائهم- لأن يكون ردهم في غزة بـ«نكبة ثانية».

لطالما اعتبرت إسرائيل، ولا تزال، أن النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية منحها وضعاً خاصاً واستثنائياً أعفاها من أي إدانة أو محاسبة، وعندما كانت تحقيقات وتقارير أممية تتهمها بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كانت الولايات المتحدة تلقي بكل ثقلها وتمارس أقصى الضغوط لدعم إفلاتها من العقاب (كما في 2009 بعد تقرير القاضي اليهودي الجنوب الأفريقي ريتشارد غولدستون عن حرب غزة الأولى). لذلك لم يكن تفصيلاً عادياً أن تجد إسرائيل نفسها، للمرة الأولى منذ إنشائها، «متهمة» ومتلبسة بوقائع إبادة جماعية ومضطرة للمثول أمام المحكمة والاستماع إلى مضبطة اتهام لا لبس فيها. لم تكشف دعوى جنوب إفريقيا في هذه المرحلة كل الأوراق والأدلة التي تملكها، بل اهتمت بالبشر الفلسطينيين مشهرة بمسؤولين إسرائيليين استخدموا وصف «حيوانات بشرية» وأحياناً «حيوانات» لدى إشارتهم إلى أهل غزة، كما ركزت على وقائع معروفة ومصورة وموثقة، مستندة إلى تقارير لمسؤولين أمميين معظمهم من دول غربية.

إزاء قرارات وممارسات إسرائيلية معلنة كالحصار الشامل وقطع المياه والكهرباء والوقود، التحكم بإدخال الأغذية والأدوية، اقتلاع السكان بقصف متعمد للمنازل ومحو عائلات بأكملها، الحيلولة دون انتشال أحياء أو قتلى من تحت الأنقاض، منع سيارات الإسعاف من الوصول إلى الجرحى وتركهم ينزفون حتى الموت، تجريف المقابر الحديثة والقديمة، فرض النزوح القسري على الغزيين إلى مناطق غير آمنة أو محيدة، استهداف مستشفيات ومراكز إيواء النازحين في المدارس، قتل مئات من المسعفين والأطباء والعاملين مع الأونروا ومنظمات الإغاثة لحرمان السكان من أي خدمات، وتدمير البنى التحتية والإدارية والأثرية ودور العبادة... بدت تهمة «الإبادة الجماعية» واضحة المعالم، ولم تجد إسرائيل حجة غير أنها «اضطرت إلى الحرب» أو أن لها «الحق في الدفاع عن النفس» على رغم تشكيك من اعترفوا بهذا «الحق» عندما صدمتهم الفظائع المرتكبة على الأرض.

بعد إخفاقات مجلس الأمن جاءت الخطوة الجنوب إفريقية لتحاول جعل المستحيل بالسياسة متاحاً أو ممكناً بالقانون، وبمقدار ما أن مضمون لائحة الاتهام كان قوياً بواقعيته وحصافته بمقدار ما عكست ردود الفعل الإسرائيلية الساخطة حقيقة الرداءة السياسية والأخلاقية سواء باتهامها جنوب إفريقيا بالكذب والتضليل أو بتعرضها للمحكمة نفسها ولقضاتها. وبعدما دافع يوآف غالانت بأنه «لا توجد حرب عادلة وأخلاقية أكثر من هذه الحرب، ولا جيش أكثر أخلاقية من الجيش الإسرائيلي»، كرر بنيامين نتنياهو أقذع الأوصاف لدعوى جنوب إفريقيا (وقاحة، سفالة، انحطاط...) قبل أن يعلن مواصلة الحرب فـ«لا شيء سيوقفنا، لا ما يجري في لاهاي، ولا ما يجري في الخارج (الرأي العام العالمي)».

أي قرار عاجل لمحكمة العدل الدولية لن يعيد الأطفال والأمهات الذين قضوا، ولن يزيل الأمراض والأوبئة والمعاناة النفسية التي تصيب من تكتب لهم الحياة. وبمعزل عما يكون هذا القرار فإن إسرائيل قررت منذ الآن أنها لن تمتثل له، أما الفلسطينيون فتعودوا ألا تكون لديهم أوهام لكن أن يكون لديهم أمل. ومهما بلغت الضغوط على الدول والقضاة التي يمثلونها فإن جنوب إفريقيا أتاحت أن تكون دعواها محاكمة لحرب إسرائيل على غزة، وأن تصبح تهمة الإبادة الجماعية ملازمة لصورتها في العالم.

* ينشر تزامناً مع موقع «النهار العربي»