رغم مرور 22 عاما على مبادرة السلام العربية التي طرحها المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز خلال أعمال مؤتمر القمة العربية الذي عقد في بيروت عام 2002، لا زالت آفاق السلام مسدودة، ولا زالت الجهود التي تهدف لإيجاد حل جذري لأزمة الشرق الأوسط تراوح مكانها، بسبب التعنت الذي تبديه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي أدمنت الالتفاف على كل المبادرات وتعمدت إفشالها، وواصلت خططها الاستعمارية الرامية للاستيلاء على كامل فلسطين عبر الاستيطان وغيره، وحرمان الشعب العربي من حقوقه المشروعة التي أقرتها المنظمات الدولية واعترف بها العالم أجمع.

ومع أن دولة الاحتلال الإسرائيلي استطاعت تقريبا أن تحيل معظم تلك المبادرات إلى دائرة النسيان بتجاهلها المستمر، إلا أنها لم تستطع فعل ذلك مع المبادرة العربية لأسباب متعدّدة في مقدمتها الديناميكية الكبيرة التي تتحلى بها، ومقاربتها للواقع، والإجماع الكبير الذي حظيت به من كافة الدول العربية وسائر الدول المحبة للسلام والتي تتمسك بفرضها على تل أبيب رغم تعنتها واستقوائها بالدول التي تدعمها.

ويقوم الرفض الإسرائيلي للمبادرة على رغبتها في الاستيلاء على الأراضي العربية المحتلة، ومصادرة حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، اعتمادا على مبدأ القوة، والدليل هو أن هذ الكيان الغاصب لم يتقدم منذ عام 1948 بأي مبادرة لإنهاء النزاع، ولم يتجاوب مع جميع الجهود الدولية المبذولة، وهي ليست سياسة حكومية فقط، بل إن كثيرا من الأحزاب الإسرائيلية تجنح للتشدد وتطرح برامج دعائية متطرفة قبيل الانتخابات لاستمالة الناخبين وكسب أصواتهم، وهو ما يشير إلى أن التطرف هو توجه عام.

من أبرز مزايا مبادرة السلام العربية ذات البنود السبعة أنها تحفظ حقوق جميع الأطراف، وتضمن انتهاء النزاع العربي الإسرائيلي إلى الأبد، وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة ومعترف بها دولياً على حدود عام 1967 عاصمتها القدس الشرقية، والتوصل لحل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، يتم الاتفاق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، والانسحاب من هضبة الجولان، وكل الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 وما بعده، وضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة. كما تطالب المبادرة دولة الاحتلال بإعادة النظر في سياساتها، وأن تجنح للسلام العادل الذي هو خيارها الإستراتيجي أيضا.

وفي مقابل هذه المطالبات المشروعة سيقوم الجانب العربي باعتبار النزاع مع إسرائيل منتهيا، وعقد اتفاقية سلام بين الجانبين لتحقيق الأمن لجميع دول المنطقة، وإنشاء علاقات طبيعية في إطار هذا السلام الشامل بما يمكّن الدول العربية وإسرائيل من العيش في سلام جنبا إلى جنب، ويوفر للأجيال القادمة مستقبلا آمنا يسوده الرخاء والاستقرار.

ونتيجة لتكامل هذه المبادرة فقد وصفها الكثير من المراقبين الدوليين وخبراء السياسة بأنها كانت فرصة ذهبية سانحة لتحقيق السلام وإنهاء هذا التوتر، فالقضية الفلسطينية كما هو معلوم هي قضية العرب والمسلمين المركزية، ولن يعرف العالم طريقاً نحو الاستقرار والأمن والسلام إلا بعد وضع حلول لها. لذلك سارعت كثير من الدول الغربية إلى إعلان دعمها السياسي والدبلوماسي للحل العربي.

لكن دولة العدوان الإسرائيلي استمرأت التمادي في انتهاكاتها التي تتعارض مع كافة القوانين والمعاهدات الدولية، وأعلنت بمنتهى الصلف رفضها لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. ومضت أكثر من ذلك للإفصاح بكل جرأة أنها تريد إقامة دولة يهودية عنصرية خالصة، وعلى حساب شعبٍ بأكمله. كما طالبت في مرات كثيرة بإعادة توطين الفلسطينيين في غزة أو الأردن. كما اقترح بعض قادتها الاستيلاء على كامل الأرضي العربية، مع «السماح» بإقامة «كانتونات» فلسطينية متناثرة في الضفة الغربية وغزة، يقيم فيها الفلسطينيون دون رابط قومي ووطني واحد، وبحيث يسمح لكل«كانتون» بممارسة الحكم المحلى على أرضه.

هذا الحل الذي لا يصدر إلا عن عقول مريضة مهووسة، رفضه الفلسطينيون والعرب بصورة قاطعة، كما عارضته كافة الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية لما ينطوي عليه من اعتداء سافر على حقوق أقرت بها الأمم المتحدة، لكن هذا الرفض العالمي الواسع لم تقابله تل أبيب بموضوعية لأن قادتها لا زالوا يؤمنون بأن لهم الحق في الاستيلاء على أراضي الآخرين استنادا إلى لغة القوة وفرض سياسة الأمر الواقع.

الآن ومع تفجّر الأحداث في غزة والضفة الغربية، عاد الحديث مرة أخرى عن المبادرة العربية بوصفها الحل الأمثل الذي يضع حدا لهذه المشكلة التي ظلت تؤرق العالم منذ 75 عاما، فقد ظلت إسرائيل تراوغ طيلة هذه الفترة وترفض الانصياع إلى صوت العقل.

حتى داخل إسرائيل نفسها هناك شخصيات كثيرة بارزة ومؤثرة بدأت تدعو لإعادة النظر في المبادرة والموافقة عليها، مثل الوزير السابق مائير شتريت الذي كتب خلال الأسبوع الماضي مقالا في صحيفة «معاريف» قال فيه «ما من حلول سحريّة لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، لكن هناك حلا ممكنا للخروج من المأزق الحالي وهو المبادرة العربيية، فإسرائيل لا يفيدها البقاء إلى الأبد على حد السيف، فيما الاعتماد على دعم مطلق ولا نهائي أمريكي لمواقفها المتعنتة يبقى من قبيل الحلم غير الواقعي».

العالم يقف الآن أمام مفترق طرق حقيقي، وعليه إذا أراد السلام والقضاء على مسبّبات الإرهاب أن يرغم دولة الاحتلال على قبول المبادرة والانخراط في جهود حقيقية وبحسن نية للوصول إلى السلام المستدام. أما تقديم الدعم الكامل للمعتدي المغتصب فسوف يضع المنطقة والعالم برمته على فوهة بركان.