من الواضح أننا نعيش اليوم ترثنا من جديد، لا من حيث إننا نحاول نشره أو تجديده، وهو ما نعانيه باسم مشكلة «التراث والتجديد» أو «القديم والجديد»، بل من حيث إننا في لقاء مع حضارة معاصرة، هي الحضارة الغربية، كما كنا من قبل في لقاء مع حضارة مغايرة، هي الحضارة اليونانية.

نعيش تراثنا الماضي، بمعنى أننا نعيش إحدى مشكلاته الأولى الناشئة عن الالتقاء بين حضارتين الأولى ناشئة، وهي الحضارة الإسلامية، والثانية غازية، وهي الحضارة اليونانية، وقد تم هذا الالتقاء الأول بعد عصر الترجمة في القرن الثاني الهجري، وتم هذا اللقاء الثاني أيضا بعد عصر الترجمة الثاني، ابتداء من القرن الثامن عشر بعد الحملة الفرنسية على مصر حتى الآن؛ أي على مدى قرن ونصف من الزمان، أي أننا أمام ظاهرة واحدة تتكرر مرتين، لذلك يمكننا الحديث عن الفترة الأولى ولا نرى فيها إلا مشاكل العصر، ويمكننا الحديث عن مشاكل العصر ونراها من مخلفات تراثنا القديم.

لقد تم اللقاء الأول بين الحضارة الإسلامية الناشئة والحضارة اليونانية وحدثت ظاهرة التشكل الكاذب (La Pseudomrrhologie)، التي تحدث عنها فلاسفة الحضارة مثل شبنجلر وهي -في رأينا- ظاهرة لغوية محضة تترك فيها الحضارة الناشئة لغتها الأصلية التي أصبحت قديمة لا تستطيع التعبير عن الأفق الجديدة التي وجدت نفسها فيها، وتتبنى لغة الحضارة الغازية الأكثر قدرة على التعبير عن المضمون الأول الذي لم تستطع اللغة القديمة التعبير عنه.

ولكن في اللقاء الثاني مع الحضارة الغربية لم يحدث هذا التشكل الكاذب بعد، فما زالت لغتنا القديمة تعبر عن مضمونها الأول، دون أن تستكشف عوالم جديدة يمكن من خلالها إسقاط ألفاظنا القديمة والتعبير من مضمونها في لغة أكثر قدرة على التعبير عنه، فما زلنا نستعمل ألفاظ الحلال والحرام، والدنيا والآخرة، والجنة والنار، والملاك والشيطان، مع أن مفكرينا القدماء قد أسقطوها واستعملوا بدلا منها ألفاظًا أكثر عقلانية وعمومية مثل السعادة والشقاء، وبالتالي لم تستطع أن نستكشف العوالم المعاصرة، مثل الشعور، والذات، والفعل، والحركة باستثناء محمد إقبال، مازلنا نواجه الحضارة المعاصرة بمقولاتنا القديمة، ولا ضير أن يكون الإنسان عالمًا طبيعيًا، ومؤمنًا بكرامات الأولياء.

نحن نرزح تحت عباءة التراث القديم، وفي مواجهة التراث الغربي المعاصر، فينا من كل تراث جزء دون أن تتحقق وحدة الشخصية بين القديم والجديد، نحن لا نعيش ثقافة واحدة بل ثقافتين كما يظهر ذلك في ازدواجية التعليم، وازدواجية الثقافة، وازدواجية السلوك، وازدواجية الشخصية بالرغم من مرور أكثر من قرن ونصف على التقائنا بالثقافة الغربية.

1970*

* باحث وأستاذ فلسفة مصري «1935 - 2021».