منذ تأسيسها في مارس سنة 1928، والمواقف المناهضة لأعمال جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية وفكرها كثيرة، غير أن هذه المواقف لم تكن تحمل صبغة حكومية خالصة، حتى جاءت سنة 1948، عندما وقع «محمود فهمي النقراشي»، في 8 ديسمبر من السنة ذاتها، على الأمر العسكري رقم (63)، والقاضي بحل الجماعة الإرهابية، بعد ثبوت عملها ضد أمن الدولة، وكان الأثر المباشر لهذا القرار، وبعد ما يقارب العشرين يومًا فقط، هو قيام طالب الطب البيطري «عبد المجيد أحمد حسن»، عضو النظام الخاص للجماعة، باغتيال «النقراشي باشا»، وذلك في 28 ديسمبر، بأمر مباشر من «عبد الرحمن السندي»، وفتوى من «سيد سابق»، وبرر «حسن» فعلته تلك على أنها ردة فعل لحل رئيس وزراء المملكة المصرية المغدور جماعة الإخوان المسلمين، وحظرها، وتأميم أموالها وممتلكاتها، وسجن أعضائها، وفصل موظفي الدولة المنتمين للجماعة، وبالرغم من أن «حسن البنا» خرج بعد التحقيق معه من قبل السلطات المصرية، وتبرأ من هذا العمل، وقال كلمته الشهيرة، واصفًا من اغتال «النقراشي»: (بأنهم ليسوا إخوانًا، وليسوا مسلمين)، غير أن الجماعة اعتبرت لاحقًا عملية الاغتيال هذه، من باب الأعمال الفدائية المباركة، وليست اغتيالًا سياسيًا.

ثم جاء حل ثانٍ للجماعة الإرهابية في 29 أكتوبر سنة 1954، وظل قرار الحل هذا ساريًا، إلى ما بعد وفاة «جمال عبدالناصر» بقليل، حتى بدأت حكومة «أنور السادات» في عملية توظيف الجماعة سياسيًا.

أما قرار الحل الثالث، فكان حينما حاولت الجماعة الإرهابية تسجيل نفسها كجمعية أهلية في مارس سنة 2013، فرفعت دعوى مستعجلة من قبل «حزب التجمع» ضد الجماعة، لتصدر محكمة القاهرة للأمور المستعجلة، حكمًا في يوم الاثنين 23 سبتمبر سنة 2013، يقضي بحل جمعية الإخوان المسلمين، وحظر نشاطاتها، ومصادرة ممتلكاتها.

واجهت الجماعة وفي أوقات متفاوتة الأمر ذاته في كل من سوريا والعراق، وهما مع مصر الحكومات الوحيدة التي واجهت الجماعة الإرهابية بإجراءات سياسية وأمنية وقانونية، منذ تأسيسها وحتى مطلع الثمانينات، وكانت طبيعة هذه الإجراءات هو الحد من خطر الجماعة الإرهابية، ومواجهة ما تفتعله من أساليب لمحاولة قلب أنظمة الحكم في البلدان التي تتواجد فيها، ولم تكن أعمالًا استباقية تنهي إمكانية عودة الجماعة من جديد، إذ بمجرد تبدل الأحوال السياسية أو الأمنية، تعود الجماعة كأقوى ما يكون.

على كلٍ، بعد مضي سنوات قليلة من عقد الثمانينات، شعرت الحكومة السعودية بأن ثمة نفسا سياسيا وثوريا، بدأ يظهر في تشكلات الجماعة الإرهابية في السعودية، هذا النفس كان قائمًا في البداية على إخراج مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من إطاره الشرعي، إلى مستوى يشترك فيه مع منهج الخوارج بخصائصه المعروفة، مما جعل الحكومة السعودية، بقيادة المحنك الملك فهد بن عبد العزيز -والذي يدرك عميقًا أهمية موازنة الأمور السياسية والاجتماعية والتنموية- البدء بمواجهة هذا الفكر المتطرف، وسبقه بعدة خطوات، لتجنيب الدولة والمجتمع خطر هذا الفكر المنحرف، وكان لجهود رجلين من رجال الملك فهد، هما المرحوم وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز، وأمير منطقة الرياض وقتها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أثر بارز وكبير في تفويت الفرصة على هذه الجماعات والتنظيمات الإرهابية لتخريب الوطن، وإفساد عقول الشباب، الأول مع المخلصين من رجال الأمن، عالجوا الشق الأمني، والثاني وبجهود استثنائية عالج الشق السياسي والفكري والاجتماعي، عبر اللقاءات والحوارات والمجالس المفتوحة، وأعمال كثيرة أخرى، وهذا الجهد بالذات لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، غير مرصود، وكم أتمنى أن يتصدى لهذا الرصد كعمل وطني، أحد كراسي البحث المعنية؟!

واصلت الحكومة السعودية الجهود، ومحاصرة هذا الفكر الخوارجي الجديد، وتجفيف منابعه بأعمال استباقية؛ لحماية المجتمع وشبابه وشاباته منه، فعملت على سن الأنظمة وإصدار القرارات، ومراقبة مصارف الأموال، والتدقيق في كثير من المناشط الدعوية والخيرية، وكل ذلك كان من منتصف الثمانينيات، في وقت لم يدرك خطر الجماعة الإرهابية أحد، خارج الدول الثلاث آنفة الذكر، والتي كانت جهودها عبارة عن معالجة لأحداث افتعلتها الجماعة الإرهابية.

وكان من أبرز نتائج العمل الاستباقي والنوعي للحكومة السعودية على سبيل المثال، إنشاء (وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد) في يوليو سنة 1993، مما أسهم في تقليم أظافر التطرف، والتأليب على الدولة، واستثارة المجتمع، وقبل ذلك كان من أبرز أعمال هذا العمل الاستباقي النوعي إيقاف العديد من المتطرفين من أفراد الجماعة، وإبعادهم عن التماس مع النشء، وتحويلهم إلى أعمال إدارية، بعيدًا عن الطلاب والطالبات، أو بعيدًا عن الأعمال الرسمية المؤثرة، حتى جاء صيف سنة 1994، لتتخذ الدولة خطوتها الأهم حتى ذلك الحين، في مسيرة حماية المجتمع من شر الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وهو إيقاف بعض رموز الجماعة الإرهابية وربيبتها السرورية، وبعض كوادرهما.

وعندها تنبهت دول الخليج لخطر الجماعة الإرهابية، ولكن لظروف شتى لم يبدأ العمل الجاد في مواجهة نوعية لفكر وتنظيمات الجماعة سوى دولة الإمارات، وكان من بركات حملتها في مطلع سنة 1995، والتي استمرت حتى اليوم في تصاعد نوعي، إيقاف أبرز منظري الجماعة الإرهابية، المدعو حركيًا (محمد أحمد الراشد)، العراقي الذي تم إيقافه في الشارقة، في يناير سنة 1995، لمدة 22 شهرًا، غادر بعدها في نوفمبر سنة 1996 إلى الكويت، ثم إلى جنيف، ثم إلى ماليزيا، قبل أن يعود إلى العراق، ليكمل ما بدأه في كويت السبعينيات، من الاضطلاع بأهم دور يمكن أن يلعبه كادر أو قيادي إخواني اليوم، وهو التنظير والتخطيط للعمل الحركي والسياسي الإسلاموي، والذي أخذ أبعادًا خطيرة وغير مسبوقة، بعد ما يسمى «بالربيع العربي»، وإني لعلى يقين تام أنه متى ما استقر العراق سياسيًا وأمنيًا، فستكون «أرض السواد» هي مكان البعث الجديد لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، أو إحدى الدول الأفريقية غير العربية، المغفول عنها تمامًا من قبل مراكز الأبحاث والدراسات، أعني على مستوى رصد وتحليل نشاطات الجماعة الإرهابية هناك.

واصلت الحكومة السعودية جهدها النوعي الاستباقي بشكل أكثر تركيز ودقة، بعد أحداث 11/9، وتعاظمت قناعة المسؤولين في المملكة المتولدة من الثمانينيات، بأن مواجهة التطرف والإرهاب لا يمكن أن تتم بالوسائل الأمنية التقليدية بمفردها، ولكنها تتطلب وسائل أخرى تكون فيها المواجهة والحرب فكرية، وهو ما كان.

أما ما حدث بعد سنة 2015، وبالأخص في سنة 2017، وما بعدها فهو ملحمة سعودية، قادها أمير الحلم السعودي محمد بن سلمان، استلهامًا من زمن سلمان بن عبد العزيز، سيقف أمامها التاريخ طويلًا، وسيحسب لرجال الأمن أولًا، ثم لقطاع من العلماء والمفكرين والمثقفين والوطنيين الشرفاء، أنهم كانوا عند حسن اليقين لا الظن، بأدائهم المشرف لدرء خطر التطرف والإرهاب، وتنظيماتهما.