في الأيام الستة الأولى بعد المئة من الحرب على غزّة تكشّفت ما سمّيت الخطة أو «الرؤية» الأمريكية لما بعد هذه الحرب، ومعها بل قبلها أصبح «اليوم التالي» موعدًا ممقوتًا لأن الولايات المتحدة والدول الغربية الداعمة لإسرائيل قفزت إلى هذا اليوم من دون أن تعرف متى يحلّ، متجاوزة الأيام التي تسبقه وكأن ما فيها من مآسٍ إنسانية ومن تقتيل وتدمير ليس مهمًا، أو لأنه جلب لإسرائيل إدانة تفوق أي إدانة لـ «حماس».

ومع «الرؤية» وبعدها ظلّت واشنطن عاجزة تمامًا عن التلفّظ بـ «وقف إطلاق النار»، وقادرة دائمًا على تأكيد دعمها المطلق لإسرائيل سواء بالنسبة إلى «الأهداف»، أو بما هو أهم، أي شحنات الأسلحة والذخائر والمعلومات الاستخبارية. بدت متحمسة جدًا لما تعتبرها «رؤية» منطقية لـ «تسوية إقليمية» للأزمة التي نجمت عن كارثة غزّة: سلام إقليمي مقابل دولة فلسطينية.

ذهب وزير الخارجية أنطوني بلينكن إلى حدّ مطالبة إسرائيل بما يعلم أنه مستحيل، إذ دعاها إلى «مساعدة السلطة الفلسطينية بدلًا من معارضتها»، بالأحرى بدلًا من تهميشها والعمل الدائم على إضعافها. كان ذلك أشبه بالإفصاح عن ضيق وغضب مكتومين من سلبية «الحليف الإسرائيلي» حيال اقتراحات الإدارة الأمريكية وجهودها الدبلوماسية، على الرغم من أنها مكرّسة كليًّا لحمايته.

أصبح معروفًا أن مكالمة 23122023 الهاتفية، التي انتهت بإغلاق جو بايدن الخط المفتوح مع بنيامين نتنياهو، تناولت خصوصًا دور السلطة الفلسطينية والتوجّه نحو تطبيق «حلّ الدولتين» في إطار حل شامل. بعد ثلاثة أسابيع، وبعد انتهاء مهمة بلينكن إلى لا شيء، جهر نتانياهو بأنه أبلغ واشنطن معارضته إقامة دولة فلسطينية، وأن إسرائيل لا ترى «ضمانًا لأمنها» إلا بالسيطرة على كل المنطقة الواقعة غربي الأردن (بما يشمل الضفة الغربية)، وعاد كذلك إلى الحديث عن السيطرة على محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الواقع عند تقاطع حدود مصر وفلسطين وإسرائيل.

لم يعنِ ذلك سوى أن نتنياهو نسف عمليًا «التسوية الإقليمية»، لكنه تلقّى في اليوم التالي اتصالًا بعد انقطاع من بايدن، ولم يكن أقل توترًا من اتصالات سابقة. وإذا بالرئيس الأمريكي يصرّح بعدئذٍ بأن «الدولة الفلسطينية ممكنة بوجود نتنياهو في السلطة»، وإذ تجاهل الحديث عن ضرورة وقف الاستيطان فإنه أشار إلى «أنماط عدّة» قد تُطرح لهذه الدولة و«هناك دول كثيرة أعضاء في الأمم المتحدة ليست لها جيوش وتخضع لقيود خاصة» كما قال. هذا يعيد التسوية عمليًا إلى صيغة «صفقة القرن»، كما تلاحظ مصادر فلسطينية، التي لم تُقصِ تمامًا إمكان وجود «دولة» لكنها تصوّرتها «بلا سيادة» ورسمت خريطتها على شكل كيانات ومعازل مقطّعة ولا اتصال جغرافيًا في ما بينها.

مع ذلك، هبّ الطيف السياسي بأكمله إلى إعلان «رفض الدولة الفلسطينية» فكرةً وخيارًا، بداعي أنها ستكون «مكافأةً للإرهاب»، فيما خرج العديد من أعضاء الكونغرس الأمريكي عن أي تحفظات بانتقاد إسرائيل خصوصًا لأنها تعوّق إمكان الموافقة على المساعدات المقترحة لها. وهكذا خلص معظم وسائل الإعلام الأمريكية إلى أن هناك «معضلة» غير مسبوقة بين واشنطن وإسرائيل، ما لم يمنع بعض منها من انتقاد عدم واقعية «رؤية» الإدارة، أو السخرية من «حلٍّ فاشل» يطرحه بلينكن لأنه يطلب «تنازلات» من إسرائيل فيما هي تخوض حربًا ضد «حماس»، أو حتى التساؤل عن مدى ضمان إدارة بايدن التزامات الجانب العربي في الخطط المقترحة. في المقابل لم يفتْ بعض آخر أن يسجّل تشكيكًا عربيًا في مدى التزام هذه الإدارة تعهداتها وفي قدرتها على التأثير في المواقف الإسرائيلية بعدما تفاخر نتانياهو بأنه «قادرٌ على أن يقول لا، حتى لأفضل الأصدقاء».

يُشار هنا إلى أن التصوّر الذي تتداوله مراجع وصحف أمريكية وعبرية للصفقة يشمل هذه النقاط: إيجاد صيغة لوقف إطلاق النار في غزة، ولصفقة كبيرة لإطلاق محتجزين وأسرى، وتوسيع التطبيع بين إسرائيل ودول عربية، وتغيير سلطة «حماس» في غزة، والتزامًا إسرائيليًا بقيام دولة فلسطينية. لكن حال الفوضى والانقسام في مجلس الحرب، كما بين أركان الجيش وحكومة اليمين المتطرف، أدّت إلى تجاهل مسألتي التطبيع ودمج إسرائيل في إقليم الشرق الأوسط بعد ربطهما بوقف إطلاق النار، فالغالبية في إسرائيل لا تزال متمسّكة باستمرار الحرب وإنهاء حكم «حماس» وإعادة المحتجزين بالقوة ومن دون صفقة تبادل، على الرغم من أن العديد من المسؤولين الحاليين والسابقين في إسرائيل كما في واشنطن باتوا موقنين أن هذه الأهداف لن تتحقق بالطريقة والعقلية المتّبعتين منذ 7 أكتوبر. كل ذلك يشي باعتراف إسرائيلي ضمني بالفشل في غزة وبرفض علني لنتائجه، ما يترك خيارًا واحدًا هو مواصلة الحرب وتحمّل تكاليفها. فالأخطر في هذا الخيار هو الذهاب إلى حرب بلا نهاية، أما الأهم فهو إصرار الأحزاب المتطرفة على أن هناك فرصة للخلاص من الوجود الفلسطيني بتطبيق التطهير العرقي.

فيما اشتعل هذا السجال الأمريكي- الإسرائيلي يجري التعامل مع التوسّع الفعلي للحرب كما لو أنه غير حاصل، على الرغم من أن إيران تدفع بالتوتر إلى أقصاه في البحر الأحمر وحتى في جبهة جنوب لبنان، وتستمر بالتلويح بتصعيد في العراق وسوريا إلى حدّ استعراض قدراتها الصاروخية بشكل مباشر، بل ذهبت إلى استفزاز باكستان (الواقعة في أقصى «الشرق الأوسط الكبير») التي ردّت عليها بضربة مقابل ضربة. لكن الصين وروسيا تولّتا بطريقتيها زجر «الحليف الإيراني» وإجباره على التهدئة سريعًا لأنه تسرّع بالعبث في مجال حيوي قريب منهما، وأخطأ بحرف التركيز عن التورّط الأمريكي في الحرب على غزّة. لم يعنِ ذلك أن بكين وموسكو تعارضان التدخّل الإيراني في الصراع الدائر في الشرق الأوسط، بل تريدان أن تواصل إيران اختبار الولايات المتحدة ودفعها إلى فشل إستراتيجي باتت إسرائيل تساهم فيه متعمّدة أو مهووسةً بأهدافها الانتقامية.

تراقب الصين وروسيا الارتباك الأمريكي في إسرائيل (كما في أوكرانيا) وتحسبان ما يوفّره من مكاسب لهما، أما إيران فتعتبر أن كل ما يحصل منذ «طوفان الأقصى» هو نتيجة تفعيلها «محور المقاومة» وتوظيفها لميليشياتها، وبالتالي فمن الطبيعي أن تحصد ثمار استراتيجيتها. ربما راهنت طهران في وقتٍ ما على استمالة الجانب العربي إلى محورها طالما أن الأمر يتعلّق بغزّة وفلسطين لكن الانخراط العربي في الخطط الأمريكية خيّب توقّعاتها. لذلك بقيت إسرائيل الطرف الوحيد المتناغم مع «الأهداف» الإيرانية، تحديدًا المتطرّفين في حكومتها ليس فقط بتبنّيهم التمرّد على أمريكا وتجاهلهم الجرائم التي قلبت الرأي العام العالمي ضدّهم، بل بإصرارهم على إطالة حرب يظنون أنهم سينتصرون فيها في نهاية المطاف لكن سيبقون عالقين في غزّة.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»