كشفت هزيمة الخامس من حزيران عن الحاجة الماسة الملحة الى تجذير الثورة العربية كرد أوحد على كل العوامل التي كانت وراء الهزيمة. والدعوة إلى «ثورة ثقافية» هي جزء لا يتجزأ من عملية التجذير تلك. والثورة الثقافية تعني، فيما تعني، ثورة على المثقفين أنفسهم، أو على الأقل على نمط محدد من المثقفين كان له دور محدد أيضا في وقوع الهزيمة، والمثقفون الذين نعنيهم ههنا هم أولئك الذين تصوروا أنه ليس للثقافة من وظيفة غير ترويج الأساطير. ولا غرو أن ارتفعت أصوات هؤلاء المثقفين عقب الهزيمة مباشرة لتنتقد بعنف وتطالب وتوزع المسؤوليات والترويج الأساطير جديدة: ذلك أن جلودهم تحكهم كما يقال وشعورهم المرهق بالذنب لا بد أن يجد له متنفسا. وإذا كان المطلب الأساسي لهؤلاء المثقفين اليوم تجذير الثورة العربية، فإننا لا نجد مناصا من تذكيرهم بأن هذا التجذير يجب أن يشملهم هم قبل غيرهم. وما داموا قد امتنعوا عن نقد أنفسهم ذاتيا ووزعوا المسؤوليات على الآخرين بسخاء كبير، وما دامت عملية التجذير تستلزم أول ما تستلزم عملية نقد شاملة، فليسمحوا لنا إذن بأن ننوب عنهم في فعل ما لا بد من فعله وما كان يجب أن يفعلوه. إن هؤلاء المثقفين مسؤولون بدورهم عن الهزيمة لأنهم خانوا رسالة الثقافة وامتهنوا صناعة الأساطير وترويجها، ولا يتسع المجال هنا لتعداد جميع الأساطير التي اختلقوها ولغربلتها وتصفية حسابها، ولكننا نستطيع، في إطار مقال في مجلة، أن نركز اهتمامنا على كبرى تلك الأساطير وأخطرها وأوهاها: أسطورة الأيديولوجيا العربية الخاصة الخصوصية.

إن وضع الأيديولوجيات كان على الدوام من اختصاص المثقفين. وهذا من حقهم عندما تكون هناك حاجة حقيقية تاريخية إلى أيديولوجيات جديدة. بيد أن المثقفين هم أیضا مهددون بالتشويه المهني، ومن أبرز مظاهر هذا التشويه الرغبة في عرض العضلات الثقافية حتى بعد أن يكون أوان الاستعراضات قد فات. وإذا ما فهمنا أن المثقف بسيمائه النفسية البورجوازية الصغيرة يتصور دوما تقريبا بأن في أعماقه عملاقا ماردا يريد أن يتحرر ويبرز و يخرج من قمقمه، أدركنا لماذا يحلو للكثير من المثقفين أن يتخيلوا أنهم يعيشون - وشعوبهم - في فراغ أيديولوجي خانق وأن القدر قد وقع اختياره عليهم ليخرجوا شعوبهم من السيديمية الأيديولوجية وليقدموا إليها على طبق من ذهب تلك الأيديولوجيا الخاصة الخصوصية التي لم يسبقهم اليها سابق والتي لا يشوبها درن من اقتباس أو استيراد.

ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الظروف الموضوعية للثورة العربية بحكم من الطبيعية البورجوازية الصغيرة لقيادتها قد ساعدت هذا النفر من المثقفين على ممارسة عملقاته الأيديولوجية بلا عقاب. والثورة العربية سارت حتى الآن في طريق النضال العملي المباشر دونما دليل نظري محدد ودونما إستراتيجية طويلة النفس بعيدة المدى، ولم يكن لها من عاصم على الصعيد النظري غير منهج التجربة والخطأ الذي فرضته المعارك الملحة المتلاحقة التي كان على الثورة العربية أن تخوضها على جميع الجبهات من غير أن يتاح لها استرداد أنفاسها ومن دون أن تمكنها ظروفها الذاتية والموضوعية معا من تنظير التجربة المتراكمة، ذلك التنظير الذي نقل الممارسة بدونه عقوبة، متقلقلة، مبهورة الأنفاس، أسيرة اللحظة الراهنة، كثيرة التبذير، عاجزة عن التبصر والتوقع، مستغنية عن الإستراتيجية بالتكتيك، ومن التكنيك بالتكتكة.

1970*

* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016»