كم أحب تلك اللحظة/ الفجأة التي تحضر مثل الوحي، وتجد نفسك تردد أغنية كنت تعتقد أنك احتفظت بها في ذاكرة عابرة وأنت طفل في السيارة خلف مقعد والدك، فيدور شريطك الداخلي مذكرًا وشاديًا برائعة طلال مداح: (ماذا أقول وقد همت فيك، والسحر قد فاض من عينيك، والبدر يشكو من بهاك ويختفي، والورد يزهو من سنى خديك..). كلمات كانت تتردد على أسماعنا في الصغر دون أن نشعر بمعانيها، لا بل كنا - أيضًا - نبحث في المعاجم والقواميس عن معاني مفرداتها، قبل أن تنجب التقنية (العم قوقل) الذي سرع هو الآخر تفسيرها لنا.

السؤال الذي دائمًا ما نستدرك به حضور أغنية ما بدهشة، هو ما الذي دعا تلك الكلمات والأغنيات لتداهمنا على حين غفلة؟، لا شيء، لا سبب محدد، لربما الحنين لمرحلة نقية وبريئة كانت بعيدة عن الأيديولوجيا التي خلفت فيما بعد عقليات معقدة ومزدوجة وانفصامية.

وربما أيضًا وردت كـ «دندنة» نتحلطم بها في الوقت الذي أصبحنا فعليًا نشعر فيه بالكلمة بعد أن كنا مجرد حافظين ومفسرين لها في أعظم حالاتنا، وربما يكون مرورها - أيضًا - كونها كلمة من الكلمات الصالحة لكل زمان ومكان أمام مواقف الحياة التي تفرض علينا الحديث في الوقت الذي لا نرغب فنغني (ماذا أقول).

كانت آخر (ماذا أقولُ) قلتها لنفسي في حسرة وأسى، حينما أخبرتني إحدى زميلات العمل عن حالة طالبة كثيرة التغيب، تحضر يومًا وتغيب يومًا وهكذا. وبعد التقصي عن سبب هذا الغياب تبين أنها تحضر يومًا بحذاء أخيها واليوم التالي تغيب ليذهب أخوها بالحذاء نفسه! واستمرا في تقاسمهما الحذاء أو بالمعنى الأصح استمر الحذاء سندًا لهما في زمن عزت فيه الإنسانية، إلا من بعض القلوب ولكن (ماذا اقول)؟!

قد يفهم ويفسر البعض هذا الغياب الحاصل للطالبة مع أخيها على أنه عائد لأسباب مادية فقط وهذا صحيح، ويأتي في المقام الأول، إلا أن أسبابًا أخرى ترافق وتتبع هذا السبب وأكثر أسى أيضًا حينما تعلم أنه ناتج عن إهمال من رب الأسرة في توفير حاجيات أبنائه وقسوته المبالغ فيها عليهم. فهو باعتقاده أن بعض الاحتياجات تندرج تحت بند الرفاهية والكماليات غير الضرورية. وأحيانًا يكون هذا الموقف المرير ناتجًا عن شيء من الأنانية في توزيع بنود ميزانية الأسرة وتأمين احتياجات أفرادها، فينعكس ذلك على الأبناء بطريقة مؤسفة تمنعهم من مطالبة أهاليهم باحتياجاتهم.

غير أنك أمام بعض المواقف لا تملك إلا البوح لنفسك التي تفهمك لكنها تود الاختصار بجملة (ماذا أقول).. ؟!

(ماذا أقولُ) تقولها أيضًا بعد أن بدأت تشعر أكثر من اللازم ، وتصمت أكثر مما تتحدث، وتُجيب دون أن تُسأل. وبينما أنت وفي لصمتك ستسمع من مفاجآت الحياة ما يملأ ذاكرتك من أشعار وحكم وأغنيات، ستجمعها وتخزنها ثم تجتر ما راكمته ذاكرتك، وتعيد توزيعه في مواجع ومواقف تعيسة وسعيدة.